pic
pic
  • ۱

    تـمـهـيد

    الحمد للّه‏ ربّ العالمين على ما عرّفنا من نفسه وألهمنا من شكره وفتح لنا أبواب العلم بربوبيّته، والصّلاة والسّلام على رسوله النبيّ المنذر الأمين وعلى آله الشّموس الطالعة والسّادة الميامين واللعن على أعدائهم أجمعين.

    يحظى علم «الفقه» من بين العلوم الإسلامية بأهميّة خاصّة، حتّى أنّه يمكن القول: إنّ الفقه ـ الذي يتصدّى إلى استنباط وبيان الأحكام الشرعية لعمل المكلّفين ـ من أشرف العلوم الإسلامية بعد التوحيد ومعرفة أصول الدين.

    ومن بين العلوم التمهيدية التي تُعدّ بمنزلة المقدّمة لعلم الفقه، وتساعد الفقيه في عملية الاستنباط والاجتهاد في الأحكام الشرعية، وتعمل على توجيه دفّة الاجتهاد، نجد أنّ القواعد الفقهيّة لا تقلّ أهميّة عن القواعد الأُصولية في هذا الشأن، وذلك لأنّ القواعد الأُصولية تقع في طريق استنباط الأحكام الكلية، وأمّا القواعد الفقهيّة فهي ذات الحكم الشرعي الذي ينصبّ على جزئيات الأحكام، إلى الحدّ الذي يُتاح معه حتّى للمكلّف غير المجتهد أن يعمل بنفسه على تطبيق الحكم الشرعي ـ بالنظر إلى القاعدة الفقهيّة الموجودة ـ على مصاديقه الخارجية.

    من ذلك على سبيل المثال أنّ المكلّف إذا شكّ في صلاته بعينها بعد إتمامها، فإنّ بمقدوره أن يحكم بصحّة صلاته دون الرجوع إلى الفقيه إذا كان يعلم بقاعدة الفراغ والتجاوز. أو إذا كان على يقين من أنّه لا يستطيع الصوم وكان الصوم حرجاً عليه، فانّه سوف يمتنع عن الصوم تمسّكاً بقاعدة رفع الحرج، دون أن يعتبر نفسه مذنباً في ذلك.

    قال القرّافي ـ وهو من علماء أهل السنّة ـ في هذا الشأن: «من ضبط الفقه بقواعده، إستغنى عن حفظ الجزئيات؛ لاندراجها في الكليات» . (1)

    تعود بداية تأليف الكتب في القواعد الفقهيّة عند أهل السنّة إلى القرن الرابع الهجري؛ حيث ألّف «أبو طاهر الدبّاس» كتاباً بعنوان «القواعد الفقهيّة» على طبق مذهب أبي حنيفة، وكان يشتمل على سبع عشرة قاعدة فقهيّة .(2) وأمّا عند فقهاءنا الإماميّة فيرجع تاريخ كتابة ذلك إلى القرن السابع أو الثامن الهجري؛ إذ لم يكن الفقهاء والأُصوليون ينظرون إلى القواعد الفقهيّة قبل هذا التاريخ بوصفها علماً مستقلاً، وإنّما كانوا يبحثونها ضمن دراساتهم الفقهيّة والأُصولية، وكان هذا الأمر بدوره يعود إلى أنّ الأئمّة الأطهار(ع) كانوا يذكرون الأُصول العامّة والكلّية ضمن رواياتهم، وكانوا يرشدون الفقهاء إلى استنباط المسائل والأحكام الفقهيّة من تلك الأُصول. وهناك الكثير من الروايات الدالّة على هذا الأمر، ومن بينها الرواية المأثورة عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) قال: «علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع» .(3)

  • ۲

    وعليه فقد كانت القواعد الفقهيّة مبثوثة بشكل مبعثر في مختلف الآثار والمؤلّفات الفقهيّة لدى الإماميّة، ولم تكن قد جُمعت ضمن كتاب مستقل. ومع مرور الوقت تمّ استخراج القواعد الفقهيّة من بين الكتب والمؤلّفات الفقهيّة والأُصولية، وتصنيفها في كتاب مستقل.

    وربما أمكن التعريف

    بـ «الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد الحلّي(ره) (601 ـ 698ق)

    ـ صاحب كتاب (نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر) ـ بوصفه أول فقيه شيعي ألّف كتاباً في هذا الشأن. ثمّ جاء من بعده الشهيد الأوّل(ره) حيث ألّف كتاب «القواعد والفوائد» ضمّنه القواعد الفقهيّة بأسلوب خاصّ، بحيث اعتبر الشهيد (ت: 786ق) (ره)نفسه ـ في الإجازة التي منحها إلى ابن الخازن الحائري ـ مبتكراً لهذا العمل؛ إذ قال: «فممّا صنّفته كتاب (القواعد والفوائد)، مختصر يشتمل على ضوابط كلّية أصولية وفرعية، تُستنبط منها الأحكام الشرعية، لم يعمل الأصحاب مثله» .(4)

    ومن حينها واصل الفقهاء والأُصوليون الكبار هذا المنهج إلى يومنا هذا، وبحثوا عن القواعد الفقهيّة في كتب مستقلّة ، وأخذوا يتدارسون تلك القواعد الفقهيّة بالإضافة إلى تدريس علوم الفقه والأُصول والتفسير وما إلى ذلك.

    وإنّ شيخنا الاُستاذ والمحقّق البحّاثة، سليل المرجعية، سماحة آية اللّه‏ الحاج الشيخ محمّدجواد الفاضل اللنكراني ـ دام ظلّه العالي ـ قد طرح مباحث حول بعض القواعد الفقهية المهمّة في أيّام شهر رمضان المبارك منذ سنوات عديدة بدأت من سنة 1426 للهجرة، وتشتمل هذه القواعد على قاعدة لا حرج، وقاعدة الفراغ والتجاوز، وقاعدة القرعة، وقاعدة اليد، وقاعدة ضمان اليد، وقاعدة من ملك، وقاعدة التسامح في أدلّة السنن، وقاعدة الإلزام.

    وحيث كانت هذه الأبحاث جامعة لجميع أبعاد هذه القواعد، وقد اشتملت على تنبيهات ومطالب هامّة ـ وبعضها لا يوجد في الكتب السابقة ـ ونافعة للطلاّب والباحثين، فقد ألقى سماحة الأُستاذ المعظّم مهمّة تقريرها على عاتق بعض الفضلاء من تلامذته، فللّه تبارك وتعالى درّهم وعليه أجرهم.

    والآن أصبح هذا الكتاب بحول اللّه‏ عزّ وجل جاهزاً لتقديمه إلى أرباب التحقيق والنظر، ونحن إذ نقدّم شكرنا البالغ إلى الباري سبحانه وتعالى، والدعاء الخالص والخاضع لتعجيل فرج مولانا الإمام المهدي(عج)، ونسأله أن يتغمّد شيخنا الأُستاذ الراحل مؤسّس مركز فقه

  • ۳

    الأئمّة الأطهار(ع) ـ فإنّه اليوم معهد علمي مشار إليه بالبنان في العالم الإسلامي والحوزات العلميّة ـ سماحة المرجع الديني الكبير آية اللّه‏ العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(قده)، ونشكر جميع الأعزّاء الذين كان لهم دور في إنجاز هذا العمل، سيّما قسم البحوث لجهودهم في هذا المجال، ونخصّ بالذكر المدير المحترم حجّة الاسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمّدرضا الفاضل الكاشاني ـ دامت توفيقاته ـ . ونقدّم هذا الجهد العلمي لأصحاب الشأن والمهتمّين بالعلم والمعرفة، ونأمل أن يكون هذا الكتاب موضع ترحيب واستقبال المفكّرين والعلماء والباحثين في ميدان الفقه والأُصول، وممهّداً للفهم الدقيق للمؤلَّفات العلمية، ولإنتاج نظريات أوسع وأعمق.


    مركز فقه الأئمّة الأطهار(ع)
    10/03/1402ش ـ 11 ذي القعدة 1444ق



    مقدّمة

    لابدّ قبل الدخول في البحث عن القواعد، من بيان شرح مختصر حول علم الفقه، والقاعدة الفقهيّة والأُصوليّة، والتفاوت بينهما، وتقسيمات القواعد الفقهيّة، وكذلك بيان الخلفيّة التاريخيّة للقواعد الفقهيّة، ونستعرض ذلك ضمن سبعة مطالب على سبيل المقدّمة.

    المطلب الأوّل: الفقه

    ذكروا لهذه الكلمة عدّة معانٍ مختلفة ومتفاوتة، ومن بينها نشير إلى بعض المعاني والمفاهيم الأساسيّة لها:

    المعنى الأوّل:

    إنّ أوسع وأشمل معنى لكلمة «فقه» هو «الفهم»، حيث ذكر هذا المعنى لكلمة «فقه» أكثر أرباب اللغة(5) ، يقول مؤلّف قاموس القرآن حول الاستعمالات القرآنيّة لكلمة فقه: الفقه (بكسر الأوّل) هو الفهم، وقال في المصباح: الفقه: فهم الشيء. «قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرا مِمَّا تَقُولُ...»(6) ، و«لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا...»(7,8).

    المعنى الثاني:

    إنّ كلمة «الفقه» تعني: العلم والمعرفة. وبالطبع يجب الالتفات إلى أنّ هاتين الكلمتين تتضمّنان مفهومين مطلقين؛ يعني أنّ هذا التعريف لا يبيّن أيّ واحدة من الفقه؛ يعني الفهم والعلم والمعرفة، وتطلق كلمة «فقه» على كلّ فهم، وكلّ علم، وكلّ معرفة، ولا يلتفت إلى الوسيلة التي يحصل الإنسان على العلم والمعرفة بواسطتها. وعلى هذا الأساس، فهذان المعنيان وردا بشكل مطلق الفهم، ومطلق العلم

  • ۴

    والمعرفة، وفي هذه الصورة فإنّ الفقه له مفهومان مطلقان وغير محدودين، أحدهما: مطلق الفهم، والآخر مطلق العلم والمعرفة، والمعنى الثاني؛ ورد أيضا (9) في أكثر كتب علماء أهل اللغة .

    المعنى الثالث:

    إنّ الفقه يعني الفهم المقترن بالتأمّل والدقّة، وطبقا لهذا التعبير فإنّ الفقه يعني العلم بمفاد الكلام والذي يحصل من خلال التأمّل في الكلام. وعلى هذا الأساس، فثمّة فرق بين كلمة «علم» و«فقه»، كما اُشير إليه بأنّ الفرق بين العلم والفقه: أنّ الفقه هو العلم بمقتضى الكلام على تأمّل، ولهذا لا يقال إنّ اللّه‏ يفقه؛ لأنّه لا يوصف بالتأمّل، وتقول لمن تخاطبه تفقّه ما أقوله؛ أي تأمّله لتعرفه، ولا يستعمل إلاّ على معنى الكلام ـ لا يكادون يفقهون قولاً، وأمّا ـ ولكن لا تفقهون تسبيحهم: أتي بلفظ التسبيح وهو قول. وسمّي علم الشرع فقها؛ لأنّه مبنيّ عن معرفة كلام اللّه‏ وكلام رسوله.

    والفرق بين الفهم والعلم: أنّ الفهم هو العلم بمعاني الكلام عند سماعه خاصّة، ولهذا يقال فلان سيّء الفهم، إذا كان بطيء العلم بمعنى ما يسمع، ولا يجوز أن يوصف اللّه‏(10) بالفهم؛ لأنّه عالم بكلّ شيء على ما هو به فيما لم يزل .

    وبحسب نظر الشهيد مطهري(قده) فإنّ الفقه يأتي في جميع الموارد بمعنى الفهم (11) العميق، وكأنّه ليس له سوى هذا المعنى .

    المعنى الرابع:

    إنّ الفقه عبارة عن: «الفطنة والحدّة في الفهم» .(12)

    وأمّا المعنى الاصطلاحي لعلم الفقه، فقد ذكروا: الفقه هو العلم الذي يبحث عن الفروع العمليّة للأحكام الشرعيّة. والمقصود منه تحصيل ملكة الاقتدار على إجراء الأعمال الشرعيّة، وقد ذهب الفقهاء في بيان هذا الاصطلاح إلى القول بأنّ الفقه بالمعنى الأعمّ هو علم الشرع، والفقهاء هم أرباب النظر والرأي في الفقه، وفي صدر الإسلام كان يقال عن القرّاء فقهاء (13) .

    الفقهاء أيضاً كاللغويّين ذكروا لكلمة فقه عدّة معانٍ مختلفة للمعنى الاصطلاحي، ومن المعاني المذكورة أنّ الفقه هو العلم بالمعارف الدينيّة وفهم الدين الإسلامي، وفي هذا المعنى تنطوي معارف الدين، أو فهم الدين الإسلامي بشكل عام وبمفهوم واسع جدّا، وكلّ واحد من الفقهاء قدّم له معنىً خاصّاً.

    وبعض منهم فسّروا المعارف بـ«العقائد والمقرّرات والأحكام» وطبقا لهذا المعنى، فإنّ الفقه يعني معرفة العقائد والأحكام والمقرّرات، وهذه المقرّرات بدورها تشمل المقرّرات الأخلاقيّة والاجتماعيّة وأمثالها.

    وذهب بعض آخر في الدائرة المفهوميّة للمعارف الدينيّة إلى أنّ فهم الدين في مورد خاصّ يسمّى بالحلال والحرام، أو الأحكام الشرعيّة، أو فروع الدين، وطبقا لهذا المعنى فإنّ الفقه يعني معرفة الأحكام.

    وهذه التعاريف والمعاني تتضمّن العلم بالدين أو الأحكام بصورة مطلقة

  • ۵

    أعمّ من العلم الاجتهادي والتقليدي، وعلى هذا الأساس يمكن أيضا تقديم تعريفين آخرين للفقه:

    أحدهما:

    الفقه، يعني معرفة الأحكام الشرعيّة، أعمّ ممّا لو حصلت من طريق الاستنباط والاجتهاد، أو من طريق السعي الفكري، وطبقا لهذا المعنى فإنّ الشخص الذي درس أحكام الدين بواسطة الرسالة العمليّة وحفظها يقال إنّه فقيه.

    ولكن على أساس دائرة العلم والمعرفة فثمّة رأي آخر في هذا المورد، وهو أنّ الفقه يعني العلم الاجتهادي الذي على أساسه يرجع الفقيه إلى الأدلّة والمنابع التفصيليّة لاستخراج واستنباط أحكام الدين. وعلى هذا الأساس كثير من الفقهاء يعرّفون الفقه: بـ «هو العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة» .(14)

    ويبدو أنّ هذا المعنى يتضمّن تعريفا أكمل للفقه وهو علم يختصّ بموضوعات خاصّة، كما في سائر العلوم الأُخرى.

    المطلب الثاني: القاعدة الفقهيّة

    من أجل التعرّف على ماهيّة القاعدة، يجب التحقيق أوّلاً في كلمة «قاعدة» من حيث اللغة والاصطلاح.

    القاعدة في اللغة :

    : تعني الأساس والأصل، وبهذه المناسبة يقال عن أعمدة الدار بـ «قواعد»، وقد ورد في القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى:

    «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .(15)

    ويقول الحميري في ذيل كلمة «قعد»: [قاعدة] البناء: أصل وأساسه، والجمع: القواعد، يقال: فلان يبني على غير قاعدة: أي على غير أساس .(16)

    وقال صاحب مجمع البحرين أيضا: القواعد جمع القاعدة، وهي الأساس لما فوقه .(17)

    وكلمة «قاعدة» مضافا إلى أنّها تستعمل في الأُمور الماديّة كالأبنية والعمارات، فكذلك تستعمل في الأُمور المعنويّة التي لها جهة أساسيّة، وتمثّل البناء التحتاني للأُمور المعنويّة، مثل القواعد الأخلاقيّة، القواعد الإسلاميّة، القواعد العلميّة، وبشكل عامّ فإنّ المسائل الأساسيّة لكلّ علم التي يتوقّف عليها حكم كثير من مسائل ذلك العلم يقال بأنّها قواعد ذلك العلم.

    وقد ذكر سماحة الاُستاذ في مقدّمته على كتاب «القواعد الفقهيّة» لوالده(قده) في خصوص كلمة «قاعدة»:

    هذه الكلمة من حيث اللغة موضوعة لما هو الأساس لشيء، سواءً أكان مادّيا أو معنويّا، على نحو ينعدم الشيء ويضمحلّ بسبب انتفائه، فالبيت مثلاً ينعدم بانعدام أساسه، والدين يندرس باندراس أساسه، والعلم ينتفي بانتفاء القواعد الكلّية الموجودة فيه .(18)

    أمّا المعنى الاصطلاحي للقاعدة، فترتبط بشكل وثيق بمعناها اللّغوي، ويقول التهانوي

  • ۶

    في وصف المعنى الاصطلاحي للقاعدة:

    إنّها أمر كلّي منطبق على جميع جزئيّاته عند تعرّف أحكامه منه .(19)

    ويقول الاُستاذ في التعريف الاصطلاحي للقاعدة: «هي قضيّة كلّية منطبقة على جميع جزئيّاتها» .(20)

    وعلى أساس هذا التعريف، فالقاعدة هي القضيّة الكلّية التي تنطبق على جميع جزئيّاتها عند معرفة الأحكام.

    القاعدة الفقهيّة: وقد تبيّن ممّا تقدّم تعريف القاعدة الفقهيّة، ومع ذلك فلا نرى اتّفاقا بين الفقهاء في تعريفها، وكلّ واحد من التعاريف المذكورة للقاعدة الفقهيّة يشير إلى أحد أبعاد التمايز بين القاعدة الفقهيّة وبين سائر القواعد الأُخرى، وفيما يلي نشير إلى بعض هذه التعاريف. فقال بعض: إنّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة، ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيط، بل من باب التطبيق .(21)

    وقال بعض آخر: هي أُصول فقهيّة كلّية في نصوص موجزة دستوريّة تتضمّن أحكاما تشريعيّة عامّة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها .(22)

    وذكر بعض المعاصرين أيضا في تعريف القاعدة الفقهيّة:

    إنّ القواعد الفقهيّة هي أحكام عامّة فقهيّة تجري في أبواب مختلفة، وموضوعاتهاوإن كانت أخصّ من المسائل الأُصوليّة، إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة، فهي كالبرازخ بين الأصول والفقه .(23)

    وهذا التعريف مضافا إلى أنّه مصادرة على المطلوب، لم يذكر فيه خصوصيّة القاعدة الفقهيّة.

    وبشكل عامّ يمكن القول مع قليل من التسامح:

    «القاعدة الفقهيّة هي قانون عامّ يعدّ منشأ استنباط ومستند للمسائل الجزئيّة».وبعبارة أُخرى: إنّ القاعدة الفقهيّة تمثّل معادلة عامّة جدّا وتكون منشأ استنباط أحكام محدودة، ولا تختصّ بمورد خاصّ، بل تمثّل مبنى أحكام مختلفة ومتعدّدة .(24)

    المطلب الثالث: الفرق بين القاعدة الفقهيّة والأُصوليّة

    وغني عن البيان، أنّنا نحتاج إلى القواعد الفقهيّة والقواعد الاُصوليّة لتحصيل الأحكام والمسائل الشرعيّة الجزئيّة، ومن هذا المنطلق هناك تشابه كثير بين هاتين الطائفتين من القواعد، ومن هذه الجهة فإنّ التمييز بينهما ومعرفة نقاط الاشتراك والافتراق يحظى بأهميّة كبيرة ودقّة بالغة.

    مثلاً: «الأمر ظاهر في الوجوب» أو «خبر الواحد حجّة» من القواعد الأُصوليّة، ولكن «كلّما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» هي قاعدة فقهيّة، وهنا ينبغي معرفة الأساس والمعيار الذي بسببه أضحت الاُولى قاعدة

  • ۷

    أُصوليّة والثانية قاعدة فقهيّة؟

    وذكروا هنا ثمانية فروق للتمييز بين هاتين الطائفتين من القواعد ونشير إليها فيما يلي:

    الأوّل:ما يستفاد من بعض كلمات الشيخ الأعظم (25) وتبعه المحقّق النائيني(26) ، من أنّ نتيجة المسألة الأُصوليّة نافعة للمجتهد فقط، بخلاف القاعدة الفقهيّة، فإنّها نافعة للمقلِّد أيضا، وبعبارة أُخرى: إعمال القاعدة الفقهيّة مشترك بين المجتهد والمقلِّد .(27)

    وقد أورد المحقّق الخوئي(قده)(28) ـ وتبعه على ذلك بعض المعاصرين ـ(29) إشكالاً على هذا الفرق، وقالوا: إنّ هذا الفرق غير صحيح؛ لأنّه كما أنّ المسألة الأصوليّة تختصّ بالمجتهد فإنّ الكثير من القواعد الفقهيّة تختصّ بالمجتهد أيضا، مثلاً: قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، هي قاعدة فقهيّة، في حين أنّ المقلِّد وغير المجتهد لا يمكنه العمل بها وتطبيقها؛ يعني أنّ المقلِّد لا يعلم أساس «ما يضمن» و«ما لا يضمن»، وبالطبع فربما تكون بعض القواعد الفقهيّة أعمّ من ذلك؛ مثل: قاعدة «كلّ شيء طاهر»؛ حيث تشمل المجتهد والمقلِّد، ولكنّ الكثير من القواعد الفقهيّة تختصّ بالمجتهدين.

    ولكن سماحة الاُستاذ لم يقبل هذا الإشكال وأجاب عنه بما يلي: والظاهر عدم ورود الإشكال؛ لأنّ المقصود من كون النتيجة نافعة للمقلِّد، أنّه قادر على التطبيق؛ ومعنى هذا أنّ المقلِّد بعد السؤال والفحص عن أنّ البيع من العقود التي يكون في صحيحها الضمان يقدر على تطبيق القاعدة، ويحكم بأنّ في فاسدها أيضا الضمان.

    وبعبارة أُخرى: إنّه(قده) يعتقد بأنّ القواعد الفقهيّة من باب تطبيق المضامين، ومن الواضح أنّ التطبيق غير مختصّ بالمجتهد .(30)

    الفرق الثاني:: ما ذكره المحقّق النائيني(قده) من أنّ القواعد الأُصوليّة متضمّنة للأحكام الكلّية التي لا ربط لها بالعمل بلا واسطة، بخلاف القاعدة الفقهيّة؛ فإنّها وإن كانت متضمّنة للحكم الكلّي، إلاّ أنّها تصلح لاستفادة الأحكام الجزئيّة منها في الموارد الجزئيّة، فمثلاً قاعدة «ما يضمن» تكون صالحة لاستفادة الضمان منها في البيع الشخصي المعيّن الفاسد.

    وبعبارة أُخرى: إنّ الفرق بينهما من باب الفرق بين الكلّية ـ بمعنى عدم التعلّق بالعمل بلا واسطة ـ والجزئيّة ـ بمعنى التعلّق بالعمل بلا واسطة ـ .(31)

    ثمّ إنّ الاستاذ يشكل على صحّة هذا التفاوت، ويقول:

  • ۸

    وفيه: أنّ اللازم بيان الفرق بين القاعدة الأصوليّة والفقهيّة، وما ذكره من الجزئيّة شامل للمسألة الفقهيّة أيضا. وبعبارة أُخرى: لسنا في مقام الفرق بين القاعدة الأُصوليّة والفقهيّة فقط، بل في مقام الملاك لكون القاعدة فقهيّة، وما ذكره جار في المسألة الفقهيّة، مع أنّها ليست بقاعدة فقهيّة، فتدبّر.

    هذا مع تفسير الكلّية والجزئيّة بالمعنى الذي ذكر على خلاف ما هو الظاهر منهما، مضافا إلى أنّ بعض المسائل الأُصوليّة قد يكون صالحا للأحكام الجزئيّة كالاستصحاب، فتأمّل .(32)

    الفرق الثالث:ما ذهب إليه المحقّق الخوئي(قده) من أنّ استفادة الأحكام الشرعيّة من المسألة الأصوليّة تكون على نحو التوسيط والاستنباط، بخلاف القاعدة الفقهيّة؛ فإنّ الأحكام الشرعيّة تستفاد منها على نحو التطبيق؛ أي تطبيق الكلّي على الجزئي .(33)

    وقد أورد الشهيد الصدر(قده) على هذا التفاوت إشكالين، وتبعه على ذلك سماحة الاُستاذ:

    الأوّل:أنّ مسألة الاستنباط موجودة في بعض القواعد الفقهيّة، ولا تختصّ بالقواعد الأصوليّة، ولم يذكر(قده) له مثالاً.

    الإشكال الثاني:لو كان ملاك الفرق بينهما من هذه الجهة للزم أن يكون الخلاف بينهما ناشئا من اختلاف كيفيّة طرح البحث في قاعدة، فمثلاً قاعدة «أنّ النهي عن الشيء هل يقتضي الفساد» لو طرحت بعنوان البحث عن الاقتضاء لكان البطلان مستنبطا من الاقتضاء، وأمّا لو صيغت بأنّه هل العبادة المنهيّ عنها باطلة أم لا؟ فتأتي مسألة التطبيق، فهذا الإيراد يدلّنا على أنّ الفرق الجوهري بينهما شيء آخر، والاستنباط والتطبيق يكونان من آثاره.(34)

    فتبيّن أنّ هذا الوجه أيضا غير تامّ .(35)

    الفرق الرابع:ما ورد في كلمات المحقّق العراقي(قده)، وهو: أنّ القاعدة الأُصوليّة تجري في جميع أبواب الفقه، من أوّل كتاب الطهارة إلى آخر الديات، وأمّا القاعدة الفقهيّة فهي مختصّة بباب من الأبواب، مثلاً قاعدة «لا تعاد الصلاة...» تختصّ بباب الصلاة فقط، وعلى هذا الأساس فإنّ القاعدة الأُصوليّة أوسع دائرة، في حين أنّ القاعدة الفقهيّة ليست بأوسع .(36)

    ولكن سماحة الاُستاذ لم يقبل بهذا الفرق، وقال:

    وفيه: أنّ بعض القواعد الفقهيّة مرتبط بجميع أبواب الفقه، فمثلاً قاعدة «علل الشرع معرّفات» بناء على كونها قاعدة فقهيّة، وكذا قاعدة «لا ضرر» تجري في العبادات والمعاملات والعقود والايقاعات، نعم بعض القواعد الفقهيّة مختصّ بباب واحد .(37)

  • ۹

    الفرق الخامس:ما يستفاد من كلمات السيّد المحقّق الإمام الخميني(قده)من «أنّ القواعد الأُصوليّة آليّة بخلاف القاعدة الفقهيّة فإنّها استقلاليّة» .(38)

    ثمّ إنّه يضيف الاُستاذ: «وهذا الفرق متين جدّا، ولكن لا يستفاد منه الملاك في كون القاعدة فقهيّة، فتأمّل» .(39)

    الفرق السادس: إنّ الاستنتاج في القاعدة الأُصوليّة غير متوقّف على القواعد الفقهيّة، ولكنّ الاستنتاج في القواعد الفقهيّة يتوقّف عادة على القواعد الأُصوليّة، وهذا الفرق ورد في كلمات المحقّق الحكيم(قده) .(40)

    الفرق السابع: إنّ الهدف والغاية من القاعدة الأصوليّة هو بيان كيفيّة عمليّة الاجتهاد والاستنباط، ولكنّ الهدف والغاية من القاعدة الفقهيّة هو بيان حكم الحوادث الجزئيّة.

    الفرق الثامن: ذكر بعض المعاصرين تفاوتاً آخر في هذا المورد يعود إلى الملاك في تمايز العلوم، حيث قال: خلافا لما هو المعروف من أنّ تمايز العلوم بالموضوعات، نعتقد أنّ تمايز العلوم بالمحمولات المتّصفة بالموضوعات، فالإنسان يستطيع تدوين جدول ويذكر المسائل الأُصوليّة في قائمة منه، والقواعد الفقهيّة في قائمة أُخرى من الجدول، فيتبيّن له أنّ الفرق بينهما بمحمولاتهما، وأنّ المحمول في جميع القواعد الأُصوليّة هي الحجيّة لبّا لا ظاهراً، ولكن في القواعد الفقهيّة فالمحمول هو الأحكام التكليفيّة الخمسة أو الأحكام الوضعيّة، أمّا الأحكام التكليفيّة، مثل: الصلاة واجبة، الصوم واجب، وأمّا الأحكام الوضعيّة، مثل: الضمان وعدم الضمان، والصحّة وعدم الصحّة، وبشكل عامّ في جميع القواعد الفقهيّة يجري البحث إمّا في الأحكام الوضعيّة، أو الأحكام التكليفيّة، فالفرق بين القواعد الأصوليّة و القواعد الفقهيّة بالمحمولات .(41)

    والظاهر أنّ هذا التفاوت أيضا هو التفاوت الثالث الذي ذكره المحقّق الخوئي(قده)؛ لأنّ القواعد الأُصوليّة وفق هذا التعبير هي الحجّة التي تلعب دور الواسطة في الفقه.

    المطلب الرابع: الخلفيّة التاريخيّة للقواعد الفقهيّة

    وقبل الدخول في بيان الخلفيّة التاريخيّة للقواعد الفقهيّة وتدوينها والبحث فيها على امتداد التاريخ الإسلامي، يجب الالتفات إلى أنّ القواعد الفقهيّة على ثلاثة أنواع:

    النوع الأوّل:القواعد المقتبسة من الكتاب والسنّة، مثل قاعدة «لا ضرر»، و «قاعدة اليد»، و «قاعدة التسليط».

    النوع الثاني: القواعد التي لم يرد لها ذكر بالخصوص في الكتاب والسنّة، أو بعبارة أدقّ، أنّها لم تكن منصوصةً، ولكنّها تستند إلى النصوص الشرعيّة، أو سائر الأدلّة الفقهيّة الأُخرى، مثل: قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده».

    النوع الثالث: القواعد الفقهيّة التي بنى عليها الفقهاء بملاحظة موارد متعدّدة لها، ووحدة الملاك فيها، وهذا النوع من القواعد هو المتداول بكثرة في فقه العامّة، وأغلبها يقع تحت عنوان «الأشباه والنظائر».

  • ۱۰

    أمّا فقهاء الإماميّة بدورهم فتحرّكوا بالاستلهام من تعاليم وأحاديث المعصومين(ع)(42) لتشكيل القواعد والأُصول الفقهيّة الكلّية بواسطة استخراج الملاك، وإيجاد موازين وأصول مهمّة، ولها دور مهمّ في تدوين القواعد الفقهيّة.

    ولكن طريقة المتقدّمين من فقهاء الشيعة نوعا كانت تتلخّص في البحث من القواعد الفقهيّة في مطاوي المسائل والبحوث الفقهيّة، وبحسب الظاهر لم يدوّن كتاب مستقلّ في القواعد الفقهيّة من قبل فقهاء الإماميّة إلى القرن السابع، وفيما يلي نستعرض بشكل مختصر تاريخ تدوين وكتب القواعد الفقهيّة ومؤلّفيها:

    1. الشهيد الأوّل(قده) (733 ـ 786ق): وأوّل كتاب تمّ تأليفه تحت عنوان القواعد، ويتناول فيه قسم مهمّ من القواعد الفقهيّة، وهو الكتاب الثمين المسمّى بالقواعد والفوائد الذي يشتمل على 330 قاعدة و 100 فائدة، والمؤلّف المعروف لهذا الكتاب القيّم هو الشهيد الأوّل، وكتابه كان كثير التداول بين أتباع مذهب الإماميّة، يقول الشهيد الأوّل(قده)في إجازته لابن خازن وهو يتحدّث عن كتابه:

    فممّا صنّفته كتاب القواعد والفوائد في الفقه مختصر يشتمل على ضوابط كلّية أُصوليّة، وفرعيّة تستنبط منها أحكام شرعيّة، لم يعمل للأصحاب مثله .

    2. الفاضل المقداد(قده) (المتوفّى 826 ق) : وبعد الشهيد الأوّل(قده)قام تلميذه الفاضل المقداد(قده) في تنضيد وتهذيب كتاب الشهيد، وكان النقص في كتاب الشهيد هو أنّه لم يفصل بين القواعد الفقهيّة والقواعد العربيّة، ومن هذه الجهة قام الفاضل المقداد(قده) بترتيب الكتاب المذكور على أساس الفروع الفقهيّة، وسمّاه «نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الإماميّة»، وفي الحقيقة إنّ هذا الكتاب تنضيد كتاب الشيهد الأوّل(قده)، يعني أنّه أورد القواعد الفقهيّة في باب واحد، والقواعد الأدبيّة التي يمكن أن تكون أساسا للاستدلال في فصل آخر. وفي هذا الكتاب لم يقم الفاضل المقداد بإضافة شيء إلى كتاب الشهيد(قده)سوى باب القسمة.

    3. الشهيد الثاني(قده) (911 ـ 966 ق) : الكتاب الثالث الذي تمّ تدوينه في موضوع القواعد الفقهيّة للشهيد الثاني(قده)، فإنّه كتب كتاباً باسم «تمهيد القواعد الأُصوليّة والعربيّة لتفريع فوائد الأحكام الشرعيّة»، وهذا الكتاب أيضا يعتبر نوعا من تحرير وتدوين كتاب الشهيد الأوّل.

    4. الشيخ جعفر كاشف الغطاء(قده) (المتوفّى 1227ق) : الشخصيّة الرابعة التي قامت بتأليف كتاب في مجال القواعد الفقهيّه هو الشيخ جعفر كاشف الغطاء(قده)، فإنّه ألّف كتابا في القواعد الفقهيّة باسم «القواعد الستّة عشر»، حيث بحث فيه ستّة عشر قاعدة فقهيّة.

    5. السيّد عبداللّه‏ شبّر(قده) (المتوفّى 1241ق) : وهو صاحب التفسير المعروف بتفسير شبّر، وأنّه خامس الفقهاء الذين كتبوا في موضوع القواعد الفقهيّة، وكتابه يسمّى بـ «الأُصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة».

    6. المولى أحمد النراقي(قده) (المتوفّى 1245ق) : وقد ألّف النراقي في مجال القواعد الفقهيّة كتابا قيّما أدّى إلى حدوث موجّه من الإبتكارات والإبداعات في هذا المجال، ويسمّى بـ«عوائد الأيّام من مهمّات أدلّة الأحكام»، وهو آخر

۹۰۹ بازدید