الواجب التعیینی و التخییری
الجلسة 37- بتاريخ 09 جمادی الثانی 1447
خلاصات الملاحظات
محصّلة البحث المتقدّم
تلخيصُ نظريّة المحقّق العراقيّ وبيانُ الثمرة في جانب الثواب
المناقشاتُ في نظريّة المحقّق العراقيّ
الإشكال الأوّل: امتناع «النقص» في ساحة الاعتباريّات
الإشكالُ الثاني: نقدُ مبنى «تعدّد العقاب» وحصرُ المعيار في مخالفة الخطاب
دفعُ إشكالٍ مقدّر
الإشكالُ الثالث: استنادُ سقوطِ التكليف إلى «ترخيص الشارع» لا «فعل المكلّف»
النتيجةُ النهائيّة
المصادر
محصّلة البحث المتقدّم
قبل طيّ صفحة البحث حول المحقّق العراقي (قدّس سرّه)، يجدرُ بنا استعراضُ أركانِ ولوازمِ نظريّته إجمالاً؛ تثبيتاً للصورة النهائيّة لهذا المسلك في الذهن.
١. حقيقة الحكم؛ «الوجوب الناقص»: يتمثّل جوهرُ رؤيته في كون الواجب التخييري مصداقاً لـ «الوجوب الناقص». ويكمن الفارقُ الجوهريّ بين هذا الوجوب والوجوب التامّ في دائرة «المنع عن الترك»: ففي الوجوب التام (التعييني)، يكون المنع عن الترك مطلقاً وشاملاً لجميع حالات عدم الإتيان. وأمّا في الوجوب الناقص (التخييري)، فالمنع عن تركِ طرفٍ مّا مقيّدٌ بحالةِ ترك سائر الأطراف أيضاً (الترك المقرون بترك البقيّة).
٢. شمولُ النظريّة وإطلاقها: تمثّل الركن الثاني في نقد التفصيل الذي ذهب إليه المحقّق الخراساني. فقد صرّح العراقي بسريان ماهيّة «الوجوب الناقص» في جميع أقسام الواجب التخييري (أعمّ من وحدة الغرض وتعدّده)، مؤكّداً أنّ الاختلاف في المبادي الثبوتيّة لا يوجب تغييراً في الماهيّة الاعتباريّة للحكم.
٣. التفصيلُ في العقاب؛ ابتكارُ المحقّق العراقي: فبالرغم من القول بوحدة ماهيّة الحكم، إلّا أنّه التزم بالتفصيل في بحث «العقاب على ترك جميع الأطراف». فاستناداً إلى الصور الأربع للغرض، حكم بـ «تعدّد العقاب» في الموارد التي يكون منشأ التخيير فيها هو التضادّ في الوجود أو التضادّ في المتعلَّق (حيث المصلحة الفعليّة متعدّدة)؛ وهي رؤيةٌ لم تكن معهودةً في كلمات الأصوليّين قبله.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يُعقل أساساً في عالم الاعتبار، تصويرُ وجوبٍ يجتمع فيه كونه «وجوباً» وكونه «ناقصاً» في آنٍ واحد؟
القياسُ مع الفارق بين التكوين والتشريع: وينشأ هذا الغموض من الخلط بين أحكام الوجود وأحكام الاعتبار. ففي عالم التكوين، يُعدّ مفهوم «النقص» و«التشكيك» أمراً معقولاً ومقبولاً. حيث يرى الفلاسفة أنّ الوجود حقيقةٌ مشكّكة؛ فوجود الحقّ تعالى واجبٌ ومُطلق، بينما وجود ما سواه وجودٌ محدودٌ وناقصٌ تكتنفه «الحدود العدميّة» (كالفقر الذاتيّ، وعدم العلم المطلق، ونحوهما). وهذا النقص ذاتيٌّ للمراتب الوجوديّة الدنيا،[1] وإليه الإشارة بالآية الشريفة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّه).[2] وأمّا في عالم الاعتبار، فالأمرُ مختلف. إذ الاعتبارُ فعلٌ نفسانيٌّ للمُعتبر، يدور أمره بين «الوجود والعدم». فالمقنِّن إمّا أن يجعل الحكم أو لا يجعله. و«الوجوب» في عالم التشريع لا يعني سوى «الإلزام» و«المنع من الترك». فمع هذا، كيف يصحّ القول: «إنّي اعتبرتُ الوجوب، ولكن بصورةٍ ناقصة»؟! إنّ هذه القضيّة تبدو متهافتة؛ فالحقيقة المتقوّمة بـ «الإلزام»، إن لم يكن إلزامُها تامّاً، لم تكن وجوباً أصلاً (بل استحباباً أو إباحة)، وإن كان تامّاً، لم تكن «ناقصة». فتصويرُ حالةٍ برزخيّةٍ بينهما يُشبه «اجتماع النقيضين» في وعاء الاعتبار.
الغموض في فعليّة الوجوب الناقص: ويرد إشكالٌ آخر ناظرٌ إلى مسألة «الفعليّة». حيث ذهب المحقّق العراقي إلى أنّه في الواجب التخييري، تصل وجوباتٌ متعدّدةٌ إلى مرحلة الفعليّة، وهي بأجمعها «ناقصة».
وهنا يكمن الغموض: فهذه الوجوبات إمّا أن تكون فعليّةً وإمّا لا. فإن لم تكن فعليّة، فهو خُلف الفرض ومنافٍ للدعوى. وإن كانت فعليّة، فما معنى «النقص» في الوجوب الفعليّ؟ إذ الوجوبُ الفعليّ هو الحكمُ الذي له داعويّةٌ ناجزةٌ تُلزم المكلّف بالانبعاث. فصياغةُ «الإلزام الفعليّ الناقص» تعبيرٌ لا يستقرّ في المرتكزات العرفيّة والعقلائيّة.
وتتوجّه المناقشةُ الأساسيّةُ الثانية على كلمات المحقّق العراقي، صوبَ ما تفرّد باستنتاجه في باب «تعدّد العقاب» ضمن صور التزاحم وتعدّد الغرض.
نقطةُ الوفاق؛ ردُّ التفصيل الثبوتيّ للآخوند: وقبل الولوج في أصل الإشكال، يلزم التنويه إلى أنّنا نوافقه الرأي في الشقّ الأوّل من التحليل (أي نقد رؤية المحقّق الخراساني). حيث ذهب الآخوند إلى أنّ التخيير في فرض وحدة الغرض عقليّ، ولا يتحقّق التخيير الشرعيّ إلا في صورة تعدّد الأغراض. بيد أنّ المحقّق العراقي أدرك ـ بحقٍّ ـ أنّه لا فرق في تحليل ماهيّة الواجب التخييري بين وحدة الغرض وتعدّده، وأنّ هيكليّة الحكم فيهما واحدة (وهو ما سيأتي توضيحه في تبيين نظريّة الإمام الخميني قدس سره، من أنّ بحث الواجب التخييري لا يرتبط أساساً بمسألة الغرض، بل يدور مدار كيفيّة الجعل).
نقطة الخلاف؛ الإشكال في مبنى «تعدّد العقاب»: وأمّا منطلق الاختلاف فيكمن في حكمه بـ «تعدّد العقاب» في الصورتين الثانية والثالثة (التضادّ في المتعلَّق أو التضادّ في تحقّق الغرض). وهذا الحكم مخدوشٌ من جهتين:
أوّلاً: إنّ وحدة العقاب في فرض ترك جميع أطراف الواجب التخييري، أمرٌ ارتكازيٌّ ومقبولٌ لدى كافّة العقلاء والمتشرّعة. فالعرفُ حينما يواجه مَن ترك خصال الكفّارة، لا يراه مستحقّاً إلا لعقوبةٍ واحدة، لا لثلاث؛ وإثباتُ ما يخالف هذا الارتكاز الراسخ يفتقر إلى دليلٍ قاطع.
قد يُقال في مقام الدفاع عن المحقّق العراقي: إنّه حتّى لو جُعل المعيارُ «مخالفةَ الخطاب»، فإنّ تعدّد العقاب يثبت أيضاً وفقاً لمبناه الخاص (القائل بانحلال الوجوب وتعدّد الوجوبات الفعليّة)؛ إذ قد تحقّقت المخالفةُ في المقام لخطاباتٍ ووجوباتٍ متعدّدة عملاً.
وتتّجه المناقشةُ الفنّيّة الثالثة والأخيرة على كلام المحقّق العراقي، صوبَ التحليل الذي قدّمه في مقام الجواب عن الإشكال المقدّر. حيث أفاد في تبيين العلاقة بين أطراف التخيير: «إنّ إتيانَ أحدِ الأطراف يوجب إخراجَ البقيّة عن حيّز الوجوب الفعليّ».
تحليل ماهيّة السببيّة: والسؤال الذي يرد هنا: ما هي حقيقة هذه «الموجبيّة» و«السببيّة»؟ هل إنّ ذات «الفعل الخارجيّ للمكلّف» هو السبب في سقوط التكليف عن ماهيّةٍ أخرى، أم أنّ العامل الرئيس هو «ترخيص الشارع»؟ والتحقيق يقتضي القول بعدم تماميّة استناد سقوط الوجوب إلى «فعل المكلّف» (بما هو فعل)؛ وذلك لانتفاء أيّ ملازمةٍ عقليّةٍ أو رابطةٍ علّيّة تكوينيّة بين تحقّق فعلٍ خارجيّ (كعتق الرقبة مثلاً) وبين سقوط الوجوب عن ماهيّةٍ مباينةٍ أخرى (كإطعام ستّين مسكيناً). فإنّ فعل المكلّف مجرّداً، قاصرٌ عن التصرّف في عالم الاعتبار والأحكام.
وبعد الاستقصاء الشامل لنظريّة «الوجوب الناقص» للمحقّق العراقي (قدّس سرّه)، تبيّن أنّ هذه الرؤية ـ رغم ما انطوت عليه من دقّةٍ وابتكار ـ تواجِهُ تحدّياتٍ ثبوتيّةً وإثباتيّةً جادّة؛ لابتنائها على مفاهيمَ من قبيل «النقص في الاعتبار» و«تعدّد العقاب في التخيير». وبناءً عليه، فإنّها قاصرةٌ عن تقديم تفسيرٍ جامعٍ ومتقنٍ لحقيقة الواجب التخييري.
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
[2]- الفاطر: 15.
[3]- وقد صرّح (قدس سرّه) في مواردَ مختلفة، كما في بحث الشرط المتأخّر (خمینی، روح الله، «مناهج الوصول إلى علم الأصول»، ج 1، ص 343.) أو في المباحث الفقهيّة كالخيارات، بأنّ الأحكام الشرعيّة ليس لها وجودٌ خارجيٌّ عارضٌ على الموضوعات (كالاعراض المقوليّة) لتجري عليها أحكام التضادّ والتماثل الفلسفيّة؛ بل هي أمورٌ اعتباريّةٌ تابعةٌ للجعل والمصلحة. وله في «كتاب البيع» بيانٌ في مقام نقد التوهّمات العقليّة حول اجتماع الأسباب، ينصّ فيه على هذا التفكيك بدقّة، حيث قال:
«أنّ توهّم تلك المحذورات العقليّة، ناشئٌ من قياس التشريع والأمور الاعتباريّة بالتكوين، وقياس الأحكام بالأعراض المقوليّة... مع أنّه قياسٌ باطل؛ إذ ليس للأحكام وجودٌ خارجي، عارضٌ على الموضوعات عروض الأعراض عليها... فلا ضدّيّة ولا تماثل بينها، نحو ما بين الأعراض الخارجيّة...». (خمینی، روح الله، «کتاب البیع»، ج 4، ص 281.)
المصادر:
- الشیرازی، صدرالدین محمد بن ابراهیم، الحکمة المتعالیة فی الأسفار العقلیّة الأربعة، ۹ ج، بیروت، دار إحیاء التراث، 1981.
- خمینی، روح الله، کتاب البیع، تهران، مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی، 1379.
- ———، مناهج الوصول إلى علم الأصول، قم، موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني( ره)، 1415.
- طباطبایی، سید محمد حسین، نهایة الحکمة، غلامرضا فیاضی، ۴ ج، قم، انتشارات مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمینی، 1382.
- الواجب التعييني
- الواجب التخييري
- سقوط التكليف
- تعدّد العقاب
- الوجوب البدلي
- الوجوب الناقص
- المحقّق العراقيّ
- التفكيك بين التكوين والتشريع
- مخالفة الخطاب
- فعليّة الوجوب
- ترخيص الشارع
- تعدّد الغرض
الملصقات:
ساعد على توسيع الكلمات المفتاحية للدروس
خلاصات الملاحظات
محصّلة البحث المتقدّم
تلخيصُ نظريّة المحقّق العراقيّ وبيانُ الثمرة في جانب الثواب
المناقشاتُ في نظريّة المحقّق العراقيّ
الإشكال الأوّل: امتناع «النقص» في ساحة الاعتباريّات
الإشكالُ الثاني: نقدُ مبنى «تعدّد العقاب» وحصرُ المعيار في مخالفة الخطاب
دفعُ إشكالٍ مقدّر
الإشكالُ الثالث: استنادُ سقوطِ التكليف إلى «ترخيص الشارع» لا «فعل المكلّف»
النتيجةُ النهائيّة
المصادر
رأيك