pic
pic

الواجب التعیینی و التخییری

الجلسة 36
  • بتاريخ 28 جمادی الاول 1447
خلاصات الملاحظات

محصّلة البحث المتقدّم
مختار المحقق العراقي: مسلك «الوجوب الناقص»
أركان النظريّة
ثمرةُ البحث: الصورُ الأربعُ للغرض والتفصيلُ في العقاب
المناقشة: إشكال «عدم القدرة على الجمع» وردّ المحقّق العراقي
التفكيك الدقيق: وجه الافتراق بين «التضادّ في الاتّصاف» و«التضادّ في الوجود»
المصادر



بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

محصّلة البحث المتقدّم

تَمّ في البحث السابق تحليلُ الإشكال الرابع الذي أورده المحقّق الخوئيّ على الشقّ الثاني من نظريّة صاحب الكفاية في «الواجب التخييريّ»؛ وهو الشقّ المبتني على فرضيّة تعدّد الأغراض اللزوميّة ووجودِ «تضادٍّ» بينها. وقد أوضحَ المحقّق الخوئيّ ـ عبر تفكيك التضادّ إلى صورتين: «ترتيبيّ» و«مطلق» ـ عدمَ استقامةِ الهيكليّة التي رامها الآخوند ـ أي «التخيير الشرعيّ» كسنخٍ خاصّ من الوجوب البدليّ ـ على كلا التقديرين: فلو كان التضادّ ترتيبيّاً وأمكن اجتماعُ الغرضين في زمان واحد، فإنّ مقتضى الحكمة المولويّة وقاعدةَ حفظ الملاك هو إيجاب الجمع؛ لاستلزام ترك الجمع وجعل التخيير تفويتاً للملاك اللزوميّ من قِبَل الشارع، وهو قبيح. وأمّا لو كان التضادّ مطلقاً وكان اجتماع الغرضين ممتنعاً ذاتاً، لزم ـ في فرض الإتيان بكلا الطرفين في زمان واحد ـ ألّا يقعَ أيٌّ منهما على صفة المطلوبية؛ مع أنّ البداهة العرفيّة قاضيةٌ بأنّه مع الجمع بين أطراف التخيير، يقع أحدهما ـ على الأقلّ ـ مطلوباً ويتحقّق الامتثال. وعليه، فإنّ حمل عبارة الآخوند على «تضادّ الأغراض» ينتهي إمّا إلى «الوجوب الجمعيّ» وإمّا إلى اللازم الباطل المتمثّل في سقوط كلا الأثرين.
ويبتني حلّ السيّد الخوئيّ على التحفّظ على ظاهرِ «أو» وتعليقِ الوجوب على «أحدهما لا بعينه»؛ بمعنى كونِ متعلّق الوجوب في التخيير هو الجامع الانتزاعيّ لا الجامع الحقيقيّ. حيث يرى إمكانَ تعلّق الأمر بالجامع العنوانيّ وتطابقَه مع النظائر الاعتباريّة الفقهيّة، عادّاً نفيَ المصلحة في المفاهيم الانتزاعيّة خطأً في تشخيص المقام. ووفقاً لهذا التحليل، يمكن حفظ التخيير الشرعيّ دون الالتزام بتضادّ الأغراض. مضافاً إلى ذلك، يُورَد نقد آخر مفادُه أنّ تقرير الآخوند لـ «سنخٍ من الوجوب» ـ استناداً للآثار الثلاثة المشهورة ـ لا يخرج عن التعريف الحقيقيّ لماهيّة الإلزام، كما أنّه يواجه على تقدير «تعدّد الوجوب» محذوراً يدورُ أمره لا محالة بين السقوط أو التقييد. فالسبيل المعقول ينحصر إمّا في الالتزام بـ «وجوبٍ واحد بدليّ» منصبٍّ على عنوان «أحدها»، أو التصريحِ بالهيكليّة التعيينيّة المشروطة؛ وإلّا فإنّ الفرضيّة الثانية في الكفاية قاصرة عن تقديم تبيين علميّ لحقيقة الواجب التخييريّ.

مختار المحقق العراقي: مسلك «الوجوب الناقص»

استمراراً للبحث في حقيقة الواجب التخييري، تصل النوبة إلى تحليل مختار المحقق العراقي (قدس سره). ونقطة الانطلاق عنده تكمن في تجاوز نظرية «الوجوب الواحد المتعلق بالعنوان الانتزاعي»، والمصير إلى «انحلال الوجوب». ومن هذه الجهة، يتوافق مسلكه مع مختار المحقق الخراساني؛ إلا أن وجه الامتياز الدقيق لهذه النظرية يكمن في تبيين سنخية هذا الوجوب، حيث عبّر عنه بـ «الوجوب الناقص».

أركان النظريّة

ترتكزُ رؤية المحقق العراقي ـ كما في نهاية الأفكار[1] ـ على ثلاثة محاور رئيسيّة:

الأول: تعدّد الوجوب والواجب

يتمثّل الركن الأوّل في الالتزام بتعدّد الوجوب. فخلافاً للرؤية القائلة بكون المتعلّق هو «جامع أحدهما»، يذهب المحقق العراقي إلى أنّ كلّ طرفٍ من أطراف التخيير يُعدُّ في حدّ ذاته موضوعاً لحكمٍ مستقل؛ وعليه، فإنّنا في الواجب التخييري نواجه «واجباتٍ متعدّدة» لا واجباً واحداً.

الثاني: تحليل ماهيّة الحكم والتمييز بين «الوجوب التام» و«الناقص»

يتمحور كلامُه أساساً حول توصيف سنخية هذه الوجوبات المتعدّدة. ولفهم هذا المعنى، لا بدّ من الالتفات إلى التعريف المشهور للوجوب عند القدماء، القائم على تركّب حقيقته من «طلب الفعل» و«المنع من الترك». وهنا يظهر الفرق بين الواجب التعييني والتخييري في دائرة هذا الجزء الثاني (المنع من الترك):

- الوجوب التام (الواجب التعييني): يكون المنع من الترك فيه مُطلقاً، شاملاً لجميع أنحاء عدم الإتيان.

- الوجوب الناقص (الواجب التخييري): وإن كان الطلبُ فيه متحقّقاً بالنسبة إلى كلّ طرف، إلّا أنّ «المنع من الترك» ليس مُطلقاً بل مُضيَّق؛ إذ الممنوع عنه هو «تركُ هذا الطرف في حال تركِ سائر الأطراف». وبناءً على ذلك، يختصّ كلّ طرفٍ من أطراف التخيير بوجوبٍ لا يقتضي سدّ جميع أبواب العدم، بل يسدّ جانباً خاصاً من أنحاء الترك، ولذا أُطلق عليه عنوان «الوجوب الناقص».

الثالث: شمول النظريّة لوحدة الغرض وتعدّده

الركن الثالث هو تعميم هذا التحليل لمقام الثبوت. حيث صرّح بأنّ ثبوت هذه الماهيّة (الوجوب الناقص) لا يختلف باختلاف فروض الغرض؛ فسواءٌ كان منشأ التخيير «غرضاً واحداً جامعاً» أم «أغراضاً متعدّدة غير قابلة للجمع» (أعمّ من التزاحم في الامتثال، أو التضادّ في الوجود، أو التضادّ في الاتّصاف بالمصلحة)، ففي جميع هذه الصور، تكون النتيجة في عالم الاعتبار هي تعلّق «وجوب ناقص» بكلّ واحد من الأطراف. وقد قرّر نظريّته في نهاية الأفكار بقوله:

فالمرجع فيه كما عرفت إلى وجوب كلّ واحد منها، لكن بإيجاب ناقص بنحو لا يقتضي إلّا المنع عن بعض أنحاء تروكه، وهو الترك في حال ترك البقيّة، من غير فرق في ذلك بين أن يكون هناك غرض واحد... أو أغراض متعدّدة...؛ حيث أنّ مرجع الجميع إلى تعلّق وجوب ناقص بكلّ واحد من الوجودات بنحو لا يقتضي إلّا المنع عن بعض أنحاء تروكه.

ثمرةُ البحث: الصورُ الأربعُ للغرض والتفصيلُ في العقاب

وفي سياق استكمال البحث، يوسّع المحقق العراقي دائرة الكلام لتشمل الفروض الثبوتية المختلفة للغرض، مؤسِّساً ذلك على مبنى «الوجوب الناقص». فقد رسم أربعة تصاوير متمايزة لمنشأ الواجب التخييري، وذهب ـ خلافاً للمشهور القائل بوحدة العقاب في ترك الواجب التخييري مطلقاً ـ إلى التفصيل بين هذه الصور في مقام العقوبة.

الصور الأربع لتصوير الغرض

وتتلخّص الحالات المختلفة للعلاقة بين الأغراض وأطراف الواجب التخييري في نظره فيما يلي:

الصورة الأولى: وحدة الغرض؛ وهي الحالة التي يترتّب فيها غرض واحد على مجموع الأطراف أو الجامع بينها.

الصورة الثانية: تعدّد الغرض مع امتناع الجمع في المتعلَّق؛ حيث تتعدّد الأغراض، ولكن يمتنع الجمع بين الفعلين (متعلَّقي الغرضين) خارجاً (نظير باب التزاحم).

الصورة الثالثة: تعدّد الغرض مع امتناع الجمع في تحقّق الغرض؛ وهنا يكون الإتيان بكلا الفعلين مُمكناً، إلا أن التضاد يكمن في ناحية المسبّبات وحصول الأغراض؛ بحيث لا يبقى مجال لتحقّق الآخر مع استيفاء أحدهما.

الصورة الرابعة: تعدّد الغرض مع التضاد في مقام الاتّصاف؛ أي أن التضاد بين الغرضين يرجع إلى أصل القابليّة للاتصاف بالمصلحة، فبمجرّد اتصاف أحد الأطراف بالمصلحة، يسقط الطرف الآخر عن القابليّة للاتصاف بها.

والنقطة المحوريّة في رؤية المحقق العراقي هي أنه في جميع هذه الصور الأربع، وإن كانت ماهيّة الحكم المجعول واحدة ـ وهي «الوجوب الناقص» ـ إلا أن النتيجة المترتبة في مقام العقاب ستكون مختلفة.

التفصيل في مسألة العقاب (الوحدة أو التعدّد؟)

وتتجلى الجدّة والثمرة العمليّة لنظريّته في تحليل استحقاق العقاب حال «ترك جميع الأطراف». حيث لم يرتضِ الحكم بوحدة العقاب على إطلاقه، بل ذهب إلى التفصيل:

أ) موارد وحدة العقاب: ففي الصورة الأولى (وحدة الغرض) والرابعة (التضادّ في الاتّصاف)، لا يوجب تركُ تمام الأطراف إلا استحقاق «عقاب واحد». والوجه في ذلك واضحٌ في الصورة الأولى؛ لعدم فواتِ إلا غرض واحد. وأمّا في الصورة الرابعة، فمع وجود المقتضي المتعدّد، يؤدّي التضادّ في مرحلة الاتّصاف إلى أن لا يكون ثمّة ـ فعلاً ـ إلا مصلحة واحدة وغرض واحد قابل للاستيفاء؛ فلا يستتبع تفويتُه أكثر من عقاب واحد.

ب) موارد تعدّد العقاب: وأمّا في الصورة الثانية (التضادّ في المتعلَّق) والثالثة (التضادّ في تحقّق الغرض)، فلو ترك المكلّف جميع الأطراف لكان مستحقّاً لـ «تعدّد العقاب». والسرّ في ذلك: وجود أغراض متعدّدة في هذين الفرضين، كلّ منها فعليّ وتامّ في حدّ نفسه، وإنّما المانع عن استيفائها (جميعاً) هو التزاحم في مقام العمل أو الوجود. وحيث إنّ المكلّف قد ترك الامتثال رأساً ولم يأتي بأيّ منها، فقد سبّب بسوء اختياره تفويتاً للأغراض المتعدّدة، فاستحقّ عقوبات متعدّدة. وقد أفاد في بيان هذه الثمرة قائلاً:

نعم، غاية ما هناك من الفرق بين الصور المزبورة إنّما هو من جهة وحدة العقوبة وتعدّدها عند ترك الجميع، حيث إنّه في بعضها كالصورة الأولى والأخيرة لا يترتّب على ترك الجميع إلّا عقوبة واحدة، وفي بعضها الآخر كالصورة الثانية والثالثة تترتّب عقوبات متعدّدة حسب وحدة الغرض وتعدّده.

المناقشة: إشكال «عدم القدرة على الجمع» وردّ المحقّق العراقي

طرح الإشكال: استحالة الجمع رافعةٌ لتعدّد العقاب

عقب طرح نظريّة «تعدّد العقاب» في فروض التزاحم (الصورة الثانية والثالثة)، يبرز إشكالٌ مبنائيٌّ فحواه أنّ الشرط العقليّ للتكليف والعقوبة هو «القدرة». وحيث إنّه في موارد التضادّ والتمانع بين المتعلّقين أو في تحقّق الغرضين (كانقاذ الغريقين)، لا يكون المكلّف قادراً تكويناً على الجمع بينهما، بل تنحصر قدرته في الإتيان بـ «واحدٍ» من الأطراف، فلا يصحّ استناد تفويت الغرضين معاً إليه. وبعبارة أخرى: بما أنّ المكلّف لو أراد الجمعَ لعجزَ عنه، فكيف يصحّ عقابه بتبع ترك ما هو غير مقدور (أي الجمع بينهما) واستحقاقه لعقوبات متعدّدة؟ إذ العقل يحكم بتبعيّة العقاب للسعة والقدرة، والمفروض وحدة القدرة في المقام. وهذا نصّ الإشكال في كلام المحقق العراقي:

لا يقال: بأنّه مع المضادّة المزبورة لا يكاد يستند إلى المكلّف عند تركه للجميع إلّا فوت أحد الأغراض... ومعه كيف يمكن استحقاقه للعقوبات المتعدّدة... فإذا لم يكن للمكلّف حينئذ... إلّا القدرة على تحصيل أحد الغرضين لا جرم لا يترتّب على تركه للجميع أيضاً إلّا عقوبة واحدة.

جواب المحقّق العراقي: سقوط التكاليف بسوء الاختيار

أجاب المحقّق العراقي (قدّس سرّه) عن هذا الإشكال بدقّةٍ أردفها بعبارة «فتأمّل». فهو وإن سَلَّم بـ «عدم القدرة على الجمع»، إلّا أنّه لم يَرَ في ذلك مانعاً من تعدّد العقاب في فرض «ترك الجميع». ونقطة الارتكاز في جوابه تكمن في التفكيك بين «مقام الامتثال» و«مقام العصيان»: فصحيحٌ أنّ المكلّف قاصرٌ في مقام الامتثال عن استيفاء الغرضين معاً، إلّا أنّه كان متمكّناً من أداء التكليف عبر اختيار أحدهما. وحينما يرفع يده عن الجميع بسوء اختياره، يكون قد ارتكب تركاً اختياريّاً بالنسبة إلى كلّ واحدٍ من الأطراف على حدة.  وبصياغةٍ فنّيّة: إنّ المكلّف بتركه للجميع، قد سبّب خروج كلّ واحدٍ من الأطراف عن حيّز الوجوب الفعليّ. وبما أنّ العصيان يُعدّ أحد مُسقطات التكليف، وقد تحقّق العصيان هاهنا تجاه كلّ تكليفٍ من التكاليف المستقلّة المتوجّهة إليه (بناءً على مبناه)، فيتعدّد موضوع العقاب تبعاً لذلك. وعليه، فإنّ «العجز عن الجمع في الفعل» لا يمنع من «استناد التفويت والعصيان المتعدّد» في فرض الترك الاختياري؛ لاستناد كلّ تركٍ منهما مستقلاً إلى سوء اختياره، وهو كافٍ في استحقاق العقوبة. وقد جاء نصّ جوابه كالتالي:

فإنّه يقال: نعم وإن كان لا قدرة للمكلّف على الجمع بين الغرضين، ولكن مجرّد ذلك لا يمنع عن استحقاقه للعقوبات المتعدّدة عند ترك الجميع، من جهة تمكّنه حينئذ من الإتيان بأحد الوجودين وإخراج البقيّة عن حيّز الوجوب الفعليّ، فتأمّل.

التفكيك الدقيق: وجه الافتراق بين «التضادّ في الاتّصاف» و«التضادّ في الوجود»

طرح الإشكال: لزوم تعدّد العقاب في الصورة الرابعة

وفي سياق التمحيص في الفروض الأربعة للغرض، قد يلوح في الأفق إشكالٌ يستهدف التفريق الذي اعتمده المحقّق العراقي بين «الصورة الثالثة» (التضادّ في تحقّق الغرض) و«الصورة الرابعة» (التضادّ في الاتّصاف بالمصلحة). وحاصل الإشكال: إذا كان المناطُ في الالتزام بتعدّد العقاب في الصورة الثالثة هو قابليّة كلّ واحدٍ من الأطراف للاستيفاء وشأنيّة الامتثال، وأنّ المكلّف قد فوّتها بسوء اختياره، فإنّ هذا المناطَ بعينه جارٍ في الصورة الرابعة أيضاً؛ إذ الشارع قد اعتبر فيها أنّ «أيّ طرفٍ يؤتى به فهو وافٍ بالمصلحة»، ممّا يعني ثبوت شأنيّة الاتّصاف بالمصلحة لكلّ طرفٍ (لو خُلّي وطبعه). وعليه، فبناءً على ترك المكلّف لجميع الأطراف، يقتضي الدليلُ الالتزامَ بتعدّد العقاب، تماماً كما التُزم به في الصورة الثالثة. وقد صاغ المحقّق العراقي هذا الإشكال بقوله:

لا يقال: على ذلك في الصورة الأخيرة أيضاً لا بدّ من الالتزام بتعدّد العقوبة، فما وجه التفرقة بينها وبين غيرها؟

جواب المحقّق العراقي: معيار العقاب «ترك الفعل المتّصف بالمصلحة الفعليّة»

وفي مقام الجواب، يضع المحقق آغا ضياء العراقي (قدس سره) يده على الفارق الماهوي والثبوتي بين الصورتين، نافياً وجاهة القول بتعدّد العقاب في الصورة الرابعة؛ لقصور انطباق عنوان «ترك الفعل ذي المصلحة» في الواقع إلا على واحدٍ من التروك. تبيين الفارق بين الصورتين: ففي الصورة الثالثة (التضاد في الوجود)، يكون كلّ واحد من الأفعال واجداً للمصلحة والغرض الفعلي في حدّ ذاته وفي مرحلة المقتضي؛ وإنّما التزاحم ينحصر في مرحلة «الوجود الخارجي» والتأثير. فإذا ترك المكلّف الجميع، فقد فوّت في الحقيقة مصلحتين تامّتين، ولذا يتعدّد العقاب. أما في الصورة الرابعة (التضاد في الاتصاف)، فإن التضادّ يكمن في أصل الملاك ومرحلة الثبوت. بمعنى أنه يمتنع أساساً اشتمال الفعلين معاً على المصلحة في آنٍ واحد، بل المصلحة دائرة بينهما بنحو البدليّة. وعليه، فحينما يترك المكلّف الجميع، وإن كنّا نجهل تعيين الواجد للمصلحة، إلا أن الثابت في لوح الواقع هو اتّصاف «أحدهما» فقط بالمصلحة، لا كليهما. فلا يكون الفائت إلا مصلحة واحدة، وبالتالي لا يتوجّه إليه إلا عقاب واحد.

الضابطة الكليّة والمحصّلة النهائيّة

وقد صاغ المحقق العراقي القاعدة الكلية للبحث في الختام، جاعلاً العقاب دائراً مدار ترك الفعل الذي أُحرز واتُّفق على اتصافه بالمصلحة. وهذا المعنى متحقق في الصورتين الثانية والثالثة (حيث كلا الطرفين واجدٌ للمصلحة)، ومنتفٍ في الصورة الرابعة (لانحصار المصلحة في أحدهما). وقد أفاد في مقام الجواب عن الإشكال:

إذ يقال: بأن عدم الالتزام فيها بتعدّد العقوبة إنما هو من جهة عدم صدق ترك المتّصف بالمصلحة إلا على أحد التروك، نظراً إلى ما كان بينها من المضادّة في أصل الاتصاف بالمصلحة.

وبالجملة: إن ترتّب العقوبة إنما هو على ترك الشيء في ظرف الفراغ عن اتصافه بكونه تركاً لما فيه الغرض والمصلحة، ومثل هذا المعنى إنما يصدق في الصورة الثانية والثالثة، وأما في الصورة الأخيرة فلا يكاد صدق ترك المتّصف إلا على أحد التروك، فمن ذلك لا يكاد يترتب على تركه للجميع إلا عقوبة واحدة، فتأمّل.

و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

---------------------
[1]- ‏ضیاء الدین عراقی، نهایة الأفکار (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1417)، ج 2، 391-393.

--------------------
المصادر:
- عراقی، ضیاء الدین‏. نهایة الأفکار. ۴ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1417.




۴۰ الزيارة

رأيك

رمز الامان
مطالب اكثر...
ساعد على توسيع الكلمات المفتاحية للدروس

اقترح كلمة مفتاحية لهذا الدرس
خلاصات الملاحظات

محصّلة البحث المتقدّم
مختار المحقق العراقي: مسلك «الوجوب الناقص»
أركان النظريّة
ثمرةُ البحث: الصورُ الأربعُ للغرض والتفصيلُ في العقاب
المناقشة: إشكال «عدم القدرة على الجمع» وردّ المحقّق العراقي
التفكيك الدقيق: وجه الافتراق بين «التضادّ في الاتّصاف» و«التضادّ في الوجود»
المصادر