pic
pic

الواجب التعیینی و التخییری

الجلسة 35
  • بتاريخ 27 جمادی الاول 1447
خلاصات الملاحظات

محصّلة البحث المتقدّم
الإشكال الرابع للمحقّق الخوئي علىٰ المحور الثاني من «الكفاية»: التفريق بين التضادّ الترتّبي والمطلق
الصورة الأولىٰ: التضادّ الترتّبي (لا علىٰ نحو الإطلاق)
الصورة الثانية: التضادّ المطلق
دراسة الإشكال الرابع للسيد الخوئي علىٰ المحور الثاني من «الكفاية» والقراءة المقبولة لعبارة الآخوند
الحلّ المقترَح من قِبَل المحقّق الخوئي: متعلَّق الوجوب هو «أحدهما لا بعينه» والجامع الانتزاعي
نقدٌ علىٰ الصورة الثانية للآخوند: «سنخٌ من الوجوب» بين العرف والصناعة
إشكالان للسيد الروحاني علىٰ الصورة الثانية من «الكفاية»
المصادر


بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

محصّلة البحث المتقدّم

دار البحث في الجلسة السابقة حول تقييم الإشكالين المهمّين اللذين أوردهما السيد الخوئي علىٰ «الصورة الثانية» من نظرية الآخوند الخراساني في الواجب التخييري. ففي الصورة الثانية، يذهب الآخوند إلىٰ أنّ لكلِّ طرفٍ من أطراف الواجب التخييري غرضاً لزوميّاً مستقلاً، وأنّ هذه الأغراض متضادّة، وإن كان المكلّف قادراً علىٰ جمع الفعلين. فالإشكال الثاني للمحقّق الخوئي ناظرٌ إلىٰ هذه النقطة بالذات: فالجمع بين «تضادّ الغرضين» و«القدرة علىٰ جمع الفعلين» أمرٌ غير معقول؛ إذ لو كان الفعلان قابلين للجمع، لكان مقتضىٰ ذلك تحقّق كلا الملاكين؛ وإن كان الغرضان ذاتاً غير قابلين للاجتماع، فلا بدّ أن ينعكس هذا الامتناع في صعيد الفعل أيضاً. وعلىٰ هذا الأساس، يكون إطلاق تقرير الآخوند — من دون توضيحٍ لقيود الأثر — غير قابلٍ للقبول. بَيدَ أنّه لو حُمِلت عبارة «الكفاية» علىٰ «عدم بدليّة الأغراض» لا علىٰ «التضادّ الماهوي»، لارتفع قسمٌ كبيرٌ من الإشكال؛ ولكن بناءً علىٰ الفهم المشهور للتضادّ، يبقىٰ الجمع بين الحيثيّتين المذكورتين ممتنعاً. 
وأمّا الإشكال الثالث للمحقّق الخوئي علىٰ الصورة الثانية، فيتعلّق بمسألة تعدّد العقاب في فرض ترك جميع الأطراف. فبناءً علىٰ تقرير الآخوند، لكلِّ طرفٍ غرضٌ لزوميٌّ مستقلّ، ولا يجوز ترك كلِّ طرفٍ إلّا بالإتيان بعدله الآخر. إلّا أنّ السيد الخوئي يستدلّ بثلاث مقدّماتٍ علىٰ أنّه في فرض ترك كليهما، يقع تفويتان لملاكين لزوميين، فلا بدّ من ثبوت عقابين؛ والحال أنّه لا يلتزم أحدٌ بتعدّد العقاب في الواجب التخييري. والجواب علىٰ هذا الإشكال يرتكز علىٰ مبدأين: الأوّل، أنّ معيار استحقاق العقاب هو مخالفة الخطاب المنجَّز، لا مجرّد تفويت الملاك؛ فالمقدّمة الثانية للسيد الخوئي تفتقر إلىٰ مبنىً أصوليٍّ معتبر. والثاني، أنّ الوجوب التخييري في تحليل الآخوند هو «خطابٌ واحدٌ بدليّ»، وترك الجميع إنّما هو نقضٌ لهذا الخطاب الواحد، لا لخطابين مستقلّين؛ فلا يلزم من ذلك تعدّد العقاب. يُضاف إلىٰ ذلك أنّ قياس المقام بباب الترتّب ليس بتامّ؛ إذ يُفترض في الترتّب وجود خطابين منجَّزين، وهو ما لا يُفترض في التخيير. وحتّىٰ لو سُلِّم بمبنىٰ المحقّق الخوئي، فإنّه مع فرض تضادّ الآثار، لا يفضي ترك الجميع بالضرورة إلىٰ تفويتين موجبين للمؤاخذة. فالمحصّلة هي أنّ الإشكال الثالث للسيد الخوئي ليس تامّاً في إطار نظرية الآخوند.

الإشكال الرابع للمحقّق الخوئي علىٰ المحور الثاني من «الكفاية»: التفريق بين التضادّ الترتّبي والمطلق

في القسم الثاني من كلام المحقّق الخراساني، يُفترض أنّ لكلِّ طرفٍ من أطراف الواجب التخييري غرضاً لزوميّاً مستقلاً، وأنّ بين هذه الأغراض «تضادّاً». إلّا أنّ السيد الخوئي (قدس سره)، من خلال تفريقه بين صورتين لهذا التضادّ، يخلص إلىٰ أنّه لا بدّ إمّا من الالتزام بـ «وجوب الجمع»، وإمّا أن يؤول التخيير إلىٰ «تخييرٍ عقليٍّ تزاحميّ»، فلا تثبت بذلك صورة التخيير المولوي المحض.

الصورة الأولىٰ: التضادّ الترتّبي (لا علىٰ نحو الإطلاق)

إذا كان اجتماع الغرضين في زمانٍ واحدٍ ممكناً، وكان التضادّ إنّما يجري في فرض الترتّب (أي التقدّم والتأخّر) فحسب، فإنّ القاعدة تقتضي أن يأمر الشارع بـ «جمع الفعلين في زمانٍ واحد»، تحاشياً لتفويت الملاك اللزومي. والالتزام بالتخيير في هذا الفرض أمرٌ قبيحٌ ومخالفٌ لظاهر أدلّة التخيير؛ وذلك لأنّه «إذا كان الاجتماع الزماني ممكناً، فلا بدّ من إيجاب الجمع حفظاً للملاك».

الصورة الثانية: التضادّ المطلق

وإذا كان اجتماع الغرضين في زمانٍ واحدٍ غير ممكنٍ أصلاً، لكان لازم ذلك أنّه لو أتىٰ المكلّف بكلا الفعلين في زمانٍ واحد، لما وقع أيٌّ منهما علىٰ الصفة المطلوبة؛ وذلك لأنّ «وقوع أحدهما دون الآخر ترجيحٌ بلا مرجِّح، ووقوعُ كليهما محالٌ لوجود المضادّة». هذا، في حين أنّ البداهة العرفيّة تقضي بأنّه لو أتىٰ المكلّف بكلا طرفي الواجب التخييري دفعةً واحدة، لوقع أحدهما علىٰ الأقل علىٰ الصفة المطلوبة، ولتحقّق الامتثال. فلا بدّ إمّا من الالتزام بـ «وجوب الجمع» (وهو ما يخالف ظاهر «أو»)، وإمّا أن ينتهي تحليل التضادّ المطلق إلىٰ طريقٍ مسدود.

النتيجة بناءً علىٰ مبنىٰ السيد الخوئي: ففي فرض التضادّ الترتّبي، يكون مقتضىٰ الحكمة المولويّة هو «إيجاب الجمع»؛ وجعل التخيير في هذا الفرض يستلزم تفويت الملاك اللزومي من قِبَل الشارع. وفي فرض التضادّ المطلق، يؤول البحث إلىٰ «التزاحم» و«التخيير العقلي»، فلا يثبت التخيير المولوي بالمعنىٰ الذي أراده الآخوند. وفي هذا الصدد، يقول (قدس سره):

ان الغرضين المزبورين لا يخلوان من ان يمكن اجتماعهما في زمان واحد بان تكون المضادة بين وجود أحدهما مترتباً على وجود الآخر لا مطلقاً و ان لا يمكن اجتماعهما فيه أصلا، فعلى الأول لا بد من الالتزام بإيجاب الشارع الجمع بين الفعلين أو الأفعال في زمان واحد فيما إذا تمكن المكلف منه. و إلا لفوت عليه الملاك الملزم، و هو قبيح منه. و من الواضح ان هذا خلاف مفروض الكلام في المسألة، و مخالف لظواهر الأدلة، فلا يمكن الالتزام به أصلا، و على الثاني فلازمه هو ان المكلف إذا أتى بهما معا في الخارج و في زمان واحد ان لا يقع شيء منهما على صفة المطلوبية. إذا وقوع أحدهما على هذه الصفة دون الآخر ترجيح من دون مرجح، و وقوع كليهما على تلك الصفة لا يمكن لوجود المضادة بينهما، مع انه من الواضح البديهي ان المكلف إذ أتى بهما في زمان واجد يقع أحدهما على صفة المطلوبية، ضرورة انه إذا جمع بين طرفي الواجب التخييري أو أطرافه و أتى بها دفعة واحدة امتثل الواجب و حصل الغرض منه لا محالة، و هذا ظاهر. فالنتيجة قد أصبحت لحد الآن ان ما ذكروه من الوجوه لتصوير الواجب التخييري لا يرجع شيء منها إلى معنى صحيح.[1]

دراسة الإشكال الرابع للسيد الخوئي علىٰ المحور الثاني من «الكفاية» والقراءة المقبولة لعبارة الآخوند

في القسم الثاني من نظرية الآخوند الخراساني في الواجب التخييري، يُفترض أنّ لكلِّ طرفٍ من الأطراف غرضاً لزوميّاً مستقلاً، وأنّ بين هذه الأغراض «تضادّاً». ويقرّر السيد الخوئي إشكالاً رابعاً يرتكز علىٰ التفريق بين صورتين لـ «تضادّ الأغراض»، ويبيّن أنّه علىٰ كلا الصورتين لا تستقرّ النتيجة التي يرتضيها الآخوند (وهي التخيير الشرعي بوصفه سنخاً من الوجوب البدلي). فبحسب بيانه، إذا كان التضادّ «ترتيبيّاً» — أي أنّ اجتماع الغرضين في زمانٍ واحدٍ ممكن، وإنّما يمتنع تحقّق اللاحق في فرض التقدّم والتأخّر فحسب — فإنّ مقتضىٰ الحكمة المولويّة هو وجوب الجمع في زمانٍ واحد، تحاشياً لتفويت الملاك اللزومي. ويكون ترك إيجاب الجمع في مثل هذا المورد أمراً قبيحاً ومخالفاً لظاهر أدلّة التخيير؛ فلا وجه لجعل التخيير في هذا الفرض. وإذا كان التضادّ «مطلقاً» — أي أنّ اجتماع الغرضين في زمانٍ واحدٍ غير ممكنٍ أصلاً — لكان لازم ذلك أنّه لو أتىٰ المكلّف بكلا الفعلين في آنٍ واحد، لما وقع أيٌّ منهما علىٰ الصفة المطلوبة؛ وذلك لأنّ وقوع أحدهما دون الآخر ترجيحٌ بلا مرجِّح، ووقوع كليهما محال. هذا، في حين أنّ البداهة العرفيّة والفقهيّة تقضي بأنّه لو أتىٰ المكلّف بأطراف الواجب التخييري دفعةً واحدة، لوقع أحدها علىٰ الأقل علىٰ صفة المطلوبيّة، ولتحصّل الامتثال. فنتيجة الإشكال هي أنّه لو فُرض «تضادّ الأغراض» في عبارة الآخوند، فلا بدّ إمّا من الالتزام بـ «وجوب الجمع» — وهو ما يخالف ظهور «أو» في أدلّة التخيير — وإمّا الالتزام باللازم الباطل، وهو سقوط كلا الأثرين؛ وكلا الأمرين مردود.

وعلىٰ هذا الأساس، فإنّ القراءة الأكثر انسجاماً مع سياق «الكفاية» هي حمل عبارة «لا يكاد يحصل الغرض في الآخر بإتيانه» علىٰ «نفي بدليّة الأغراض»، لا علىٰ «التضادّ» بمعنىٰ استحالة اجتماع الأثرين. فبناءً علىٰ هذه القراءة، يكون كلُّ غرضٍ قائماً بفعله الخاصّ، فلا يتحصّل بالفعل الآخر. إلّا أنّ جمع الفعلين في نفسه أمرٌ ممكنٌ ومعقولٌ عرفاً، وفي ظرف الاجتماع — ما لم يكن هناك قيدٌ واقعيٌّ آخر في موضوع الأثر — يتحقّق كلُّ غرضٍ بفعله الخاصّ. وتكون بنية الإلزام حينئذٍ «سنخاً من الوجوب البدلي»؛ أي أنّه إلزامٌ واحدٌ يتوجّه إلىٰ مجموع البدائل، ويسقط بالإتيان بواحدٍ منها. لا هو بإرجاعٍ إلىٰ جامعٍ ماهويّ، ولا هو بانحلالٍ إلىٰ عدّة وجوباتٍ تعيينيّةٍ مستقلّة.

ومن الجدير بالذكر، في ما يتعلّق بنسبة «المحاضرات» إلىٰ «نهاية الدراية»، أنّ جذور هذا المسار من الاعتراض لدىٰ المحقّق الخوئي يمكن تلمّسها في كلام المحقّق الأصفهاني أيضاً؛ إذ إنّه قد رسم صوراً متعدّدةً لنسبة الملاكات في الأطراف، وحدّد مجال جريان كلٍّ منها. وقد اعتمد السيد الخوئي في «المحاضرات» علىٰ بعض تقريراته هذه، وتابع علىٰ أساسها إشكاله. وعليه، فلو حُمِلت عبارة الآخوند علىٰ «التضادّ»، لقوي إشكال المحقّق الخوئي؛ وأمّا لو حُمِلت علىٰ «عدم بدليّة الأغراض»، لارتفع الإشكال موضوعاً. فالمحصّلة هي أنّه بناءً علىٰ القراءة المشهورة لـ «الكفاية» (وهي تضادّ الأغراض)، يكون الإشكال الرابع للمحقّق الخوئي تامّاً، ويفضي إمّا إلىٰ وجوب الجمع، وإمّا إلىٰ اللازم الباطل وهو سقوط كلا الأثرين. وأمّا بناءً علىٰ القراءة الأدقّ (وهي نفي البدليّة)، فلا ينهض الإشكال؛ فيكون الغرضان قائمين بفعلين مستقلّين ولكنّهما ليسا بديلين لبعضهما، ويكون جمع الفعلين ممكناً، وتحقّق آثارهما منوطاً بالقيود الواقعيّة للموضوع، ويبقىٰ التخيير سنخاً من الإلزام البدلي الشرعي بآثاره الثلاثة المعروفة.[2]

الحلّ المقترَح من قِبَل المحقّق الخوئي: متعلَّق الوجوب هو «أحدهما لا بعينه» والجامع الانتزاعي

إنّ السيد الخوئي (قدس سره)، بعد إبطاله للوجوه المطروحة، يرىٰ أنّ السبيل الصائب يكمن في الحفاظ علىٰ ظاهر الأدلّة، وهو أنّ «الواجب أحدُ الفعلين أو الأفعال لا بعينه، وتطبيقُه علىٰ كلٍّ منها بيدِ المكلَّف»؛ مع هذا الفارق، وهو أنّ متعلَّق الوجوب في الواجبات التعيينيّة هو «الطبيعة المتأصّلة» أو «الجامع الحقيقي»، وأمّا في الواجبات التخييريّة، فالمتعلَّق هو «الطبيعة المنتزعة» أو «الجامع العنواني».[3] ويدفع (قدس سره) الإشكال القائل بعدم تماميّة «الجامع الانتزاعي» بقوله: «لا مانع من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعي»؛ فكما أنّ صفاتٍ حقيقيّةً كالعلم والإرادة تتعلّق به، فكذلك الحكم الاعتباري الشرعي يكون قابلاً للتعلق به بطريقٍ أولىٰ. وتدلّ الأمثلة الفقهيّة — كـ «اعتبار ملكيّة أحد المالين» في البيع، أو قول البائع: «بعتُ أحدهما»، أو ما يرد في الوصيّة — علىٰ أنّ عنوان «أحدهما»، مع أنّه لا واقع موضوعيّاً له سوىٰ الانتزاع، هو أمرٌ قابلٌ للاعتبار وترتّب الأثر.

ويقول (قدس سره): «نحن لا نعلم سنخ المصلحة أو المفسدة»؛ وعليه، فإنّ نفي تعلّق التكليف بالجامع الانتزاعي بذريعة فقدان المصلحة في المفهوم الانتزاعي، هو خلطٌ بين المقامات. فالمعيار هو أنّ «الإتيان بمتعلَّق الوجوب في الخارج محصِّلٌ للمصلحة الداعية إلىٰ إيجابه»، ولا يبقىٰ بعد ذلك مجالٌ لتلك المصلحة. وعليه، فإنّ الحفاظ علىٰ ظاهر «أو» بمعنىٰ «أحدهما لا بعينه»، وتعلّق التكليف بـ «الجامع العنواني»، هو أمرٌ خالٍ من المحاذير.[4] وعلىٰ هذا الأساس، يرتكز تقرير السيد الخوئي علىٰ الحفاظ علىٰ ظاهر «أو»، وتعلّق الأمر بـ «الجامع الانتزاعي أحدها»، وهو ما يترسّخ من خلال الأمثلة الاعتباريّة الفقهيّة.

نقدٌ علىٰ الصورة الثانية للآخوند: «سنخٌ من الوجوب» بين العرف والصناعة

في القسم الثاني من نظرية الآخوند الخراساني في الواجب التخييري، يطرح (قدس سره) مفهوم «سنخٍ من الوجوب»، ويجعل آثاره الثلاثة المعروفة علامةً عليه، وهي: 1- عدم جواز ترك كلِّ طرفٍ إلّا إلىٰ الآخر، 2- ترتّب الثواب علىٰ فعل الواحد، 3- والعقاب الواحد علىٰ ترك المجموع. والذي نراه هو أنّ هذا البيان، في مقام حلّ حقيقة الإلزام، ليس إلّا مصادرةً علىٰ المطلوب؛ إذ إنّه بدل أن يبيّن ماهيّة الإلزام، يكتفي بذكر لوازمه. كما أنّ قراءة «برزخٌ بين الوجوب والاستحباب» — التي طُرحت في «منتقىٰ الأصول» ثمّ رُدَّت — لا قرينة عليها في كلام الآخوند، ولا هي بمعقولة. ففي منطق الإلزام، إمّا أن يكون الترك جائزاً (استحباب)، أو لا يجوز الترك (وجوب)، ولا يمكن إثبات مرتبةٍ مستقلّةٍ بين هاتين المرتبتين.

إشكالان للسيد الروحاني علىٰ الصورة الثانية من «الكفاية»

يذكّر صاحب «منتقىٰ الأصول» بأنّه: أوّلاً، إنّ الوجدان العرفي إنّما يفهم من الواجبات التخييريّة تكليفاً واحداً لا تكاليف متعدّدة. والحال أنّ تقرير الآخوند — مع افتراضه لتعدّد الأغراض وتكثّر الوجوبات — يفضي بالضرورة إلىٰ «وجوباتٍ متعدّدةٍ وواجباتٍ متعدّدة»، وهو ما لا ينسجم مع الذوق العرفي للتخيير. وثانياً، فعلىٰ فرض تعدّد الوجوب، إذا أتىٰ المكلّف بأحد الطرفين، فإمّا أن لا يسقط وجوب الطرف الآخر، فتكون النتيجة هي وجوب الجمع ونقض التخيير؛ وإمّا أن يسقط، فيكون لازم ذلك تقييد وجوب كلِّ طرفٍ بـ «ترك البديل»، والرجوع إلىٰ «الوجوب التعييني المشروط». وهذا لا ينسجم مع تصريح الآخوند بعدم إرجاع التخيير إلىٰ الوجوب المشروط. وعليه، فإنّ بنية «تعدّد الوجوب»، من دون الالتزام بأحد الشقّين (السقوط أو التقييد)، تبقىٰ معلّقة.

التحليل الصناعي لمسلكي السقوط والتقييد

فلو كان (أ) و(ب) إلزامين تعيينيّين مستقلّين، فإنّ الإتيان بـ (أ) إمّا أن يوجب سقوط وجوب (ب) أو لا يوجبه. فعدم السقوط يستلزم وجوب الجمع ونفي التخيير. والسقوط يستلزم أن يكون وجوب (ب) مشروطاً بترك (أ) والعكس بالعكس؛ وهذا هو عين «الوجوب التعييني المشروط». وحيث إنّ الآخوند لا يقبل بأيٍّ منهما، فإنّ مقولة «سنخٍ من الوجوب» لا تعدو كونها تعريفاً باللوازم، ولا تنهض لبيان ماهيّة الجعل.

السبل المحتملة للإصلاح

إنّ الوجه القابل للدفاع هو أن يؤخذ «الوجوب الواحد البدلي» في صعيد الجعل؛ أي أن يتوجّه الإلزام الواحد إلىٰ عنوان «أحدها» (الجامع الانتزاعي)، لا أن يُجمع بين عدّة وجوباتٍ تعيينيّة. وفي هذه الحالة، يكون التكليف واحداً، والامتثال واحداً، ويتحقّق سقوط الإلزام بالإتيان بواحد؛ فلا وجوبات متعدّدة، ولا لوازم للسقوط أو التقييد. والسبيل الثاني هو القبول بـ «الوجوب التعييني المشروط»، ولكنّ هذا التقرير — كما نُقِدَ في كلمات المحقّق النائيني وغيره — يواجه تهافت جعل الوجوب التعييني مع الترخيص في الترك. والسبيل الثالث هو تحديد صعيد المؤاخذة: أي أنّه حتّىٰ لو تُصوِّرت كثرةٌ في صعيد الخطابات، فإنّ موضوع العقاب يقيَّد بـ «ترك المجموع»، كي تُصان بذلك وحدة العقاب؛ وهذا يفتقر طبعاً إلىٰ قرينةٍ إثباتيّة. وفي هذا الصدد، يقول السيد الروحاني (قدس سره):

… هذا الاختيار وإن كنّا قد قرّبناه وقوّيناه سابقاً… لكن الذي يبدو لنا فعلاً أنّه لا يخلو من مناقشة وذلك لوجهين: الأوّل: أنّه يتنافى مع ما يراه الوجدان في الواجبات التخييرية العرفية من ثبوت وجوب واحد لا وجوبين. الثاني: أنّه لو فُرض تعدّد الوجوب… فما هو الوجه في سقوطه عن أحدهما عند الإتيان بالآخر؟… فإنِ التزم بعدم سقوطه كان ذلك منافياً لما هو الثابت… وإن التزم بسقوطه كان ذلك التزاماً بتقييد وجوب أحدهما بترك الآخر… فما ذكره صاحب الكفاية لا تمكننا المساعدة عليه… ثم إنّ ما ذكره في صورة وحدة الغرض… لا يخلو من خدشة… لأنّ هذه القاعدة تنطبق على الواحد الشخصي… بل الوجدان على خلافه… كالحرارة الصادرة عن الشمس والكهرباء والحركة… وبالجملة: فكلام صاحب الكفاية بجهتيه لا يخلو عن مناقشة فتدبّر.[5]

النتيجة: في الصورة الثانية من «الكفاية»، تكون مقولة «سنخٍ من الوجوب» — بحيث لا يُعرَف إلّا من خلال آثاره — قاصرةً عن تبيين حقيقة الجعل. فلا «البرزخ» بين الوجوب والاستحباب قابلٌ للالتزام، ولا «تعدّد الوجوب» يستقرّ من دون القبول بأحد لازميه (السقوط أو التقييد). فإذا كان المراد هو الحفاظ علىٰ التخيير الشرعي، فلا بدّ إمّا من الرجوع إلىٰ «الوجوب الواحد البدلي»، وإمّا الالتزام صراحةً بصورة السقوط أو التقييد وقبول لوازمها. وإلّا، فإنّ مقولة «سنخٍ من الوجوب» لا تتجاوز حدّ التعريف باللوازم، ولا تنهض لتوضيح ماهيّة الإلزام.

و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

-------------------
[1]- ‏ابوالقاسم خویی، محاضرات فی أصول الفقه، با محمد اسحاق فیاض (قم: دارالهادی، 1417)، ج 4، 39.
[2]- والحقّ هو أنّ حمل عبارة «الكفاية»: «لا يكاد يحصل الغرض في الآخر بإتيانه»، علىٰ «التضادّ بالذات» بين الأغراض، هو أمرٌ محلّ مناقشة. فالأقرب إلىٰ السياق هو حملها علىٰ «نفي بدليّة الأغراض»؛ بمعنىٰ أنّ غرض كلِّ فعلٍ لا يتحصّل بالفعل الآخر، لا أنّ اجتماع الأثرين ممتنعٌ ذاتاً.
[3]- نفس المصدر، 40.
[4]- نفس المصدر، 41.
[5]- ‏محمد الروحانی، منتقی الأصول (قم: دفتر آيت الله سيد محمد حسينی روحانی، 1413)، ج 2، 484.

-------------------
المصادر
- الروحانی، محمد‏. منتقی الأصول. ۷ ج. قم: دفتر آيت الله سيد محمد حسينی روحانی، 1413.
- خویی، ابوالقاسم‏. محاضرات فی أصول الفقه. با محمد اسحاق فیاض. ۵ ج. قم: دارالهادی، 1417.




۴۲ الزيارة

رأيك

رمز الامان
مطالب اكثر...
ساعد على توسيع الكلمات المفتاحية للدروس

اقترح كلمة مفتاحية لهذا الدرس
خلاصات الملاحظات

محصّلة البحث المتقدّم
الإشكال الرابع للمحقّق الخوئي علىٰ المحور الثاني من «الكفاية»: التفريق بين التضادّ الترتّبي والمطلق
الصورة الأولىٰ: التضادّ الترتّبي (لا علىٰ نحو الإطلاق)
الصورة الثانية: التضادّ المطلق
دراسة الإشكال الرابع للسيد الخوئي علىٰ المحور الثاني من «الكفاية» والقراءة المقبولة لعبارة الآخوند
الحلّ المقترَح من قِبَل المحقّق الخوئي: متعلَّق الوجوب هو «أحدهما لا بعينه» والجامع الانتزاعي
نقدٌ علىٰ الصورة الثانية للآخوند: «سنخٌ من الوجوب» بين العرف والصناعة
إشكالان للسيد الروحاني علىٰ الصورة الثانية من «الكفاية»
المصادر