-
۳۷۱
صفحه 371
العرب المسطورة; فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه; لأنّ القرآن معجزة النبوّة، ومأخذ العلومالشرعيّة، والأحكام الدينيّة، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيَّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد ـ إلى أن قال ـ :
إنّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يُدرَس ويُحفَظ جميعه في ذلك الزمان، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يعرض على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويُتلى عليه، وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود وأُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) عدّة ختمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث، وأنّ مَن خالف في ذلك من الإماميّة والحشويّة لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته(1).
4 ـ شيخ الطائفة أبو جعفر محمّدبن الحسن الطوسي يقول في هذا المجال : وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمّما لا يليق به أيضاً; لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى (رحمه الله) .
وهو الظاهر في الروايات، غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة العامّة والخاصّة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها; لأنّه يمكن تأويلها(2) .
(1) حكى عنه في مجمع البيان 1 : 15 ـ 16.
(2) مقدّمة تفسير التبيان 1 : 3 . -
۳۷۲
صفحه 372
5 ـ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، المفسِّر الكبير وصاحب كتاب مجمع البيان ; كتب في مقدّمة تفسيره ما يلي : القول بإضافة آية على آيات القرآن، فمجمع على بطلانه، والقول بالنقصان قد روته جماعة من أصحابنا الإماميّة وقوم من حشويّة العامّة . والصحيح من مذهب أصحاب الإماميّة هو خلاف ذلك(1) .
6 ـ السيّد ابن طاووس قال ما يلي :
رأي الإماميّة هو عدم تحريف القرآن(2) . ويقول في مكان آخر :
قد تعجّبت ممّن قد استدلّ على أنّ القرآن محفوظ من عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأنّه هو الذي جَمَعهُ، ثمّ قد ذكر هاهنا اختلاف أهل مكّة والمدينة، وأهل الكوفة والبصرة، واختار أنّ (بسم الله الرحمن الرحيم) ليست من السورة.
وأعجبُ من ذلك احتجاجهُ بأنّها لو كانت من نفس السورة كان قد ذكر قبلها افتتاح لها، فيالله وللعجب! إذا كان القرآن مصوناً من الزيادة والنقصان ـ كما يقتضيه العقل والشرع ـ كيف كان يلزم أن يكون قبلها ما ليس فيها؟ وكيف كان يجوز ذلك أصلاً؟!(3) .
7 ـ ملاّ محسن الفيض الكاشاني يقول :
إنّ الروايات التي تدلّ على التحريف هي مخالفة مع كتاب الله ، واللاّزم إمّا رفضها أو حملها وتأويلها(4) .
8 ـ محمّد بن الحسين، الشهير ببهاء الدين العاملي ، والمعروف بالشيخ البهائي يقول بشأن القرآن الشريف : اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه، والصحيح أنّ
(1) مجمع البيان 1 : 15 .
(2) سعد السعود : 255 .
(3) سعد السعود : 316 .
(4) تفسير الصافي 1 : 44 ـ 49 . -
۳۷۳
صفحه 373
القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادةً كان أو نقصاناً، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) (1)، وما اشتهر بين النّاس من إسقاط اسم أمير المؤمنين (عليه السلام) منه في بعض المواضع; مثل قوله ـ تعالى ـ : «يا أيّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك في عليّ» وغير ذلك، فهو غير معتبر عند العلماء(2).
9 ـ الشيخ محمّدبن الحسن الحرّ العاملي صاحب كتاب وسائل الشيعة الروائي المهمّ ، قال في رسالة بشأن إثبات عدم تحريف القرآن :
إنّ من تتبّع الأخبار وتصفّح الآثار من كتب الأحاديث والتواريخ وغير ذلك يعلم قطعاً أنّ القرآن كان في غاية الشهرة والتواتر بحسب نقله من الصحابة أُلوف كثيرة; فإنّهم كانوا في غاية الكثرة، ونقلته من التابعين أكثر منهم، وإنّه ما زال يزيد، وأنّه كان مجموعاً مولّفاً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فظهر أنّه بلغ حدّ التواتر، بل زاد عليه بمراتب كثيرة(3).
10 ـ الشيخ جعفر كاشف الغطاء من نوادر فقهاء الشيعة يقول في كتابه النفيس كشف الغطاء :
لا زيادة فيه، من سورة، ولا آية، من بسملة، وغيرها، لا كلمة، ولا حرف. وجميع ما بين الدفّتين ممّا يُتلى كلام الله ـ تعالى ـ بالضرورة من المذهب، بل الدِّين وإجماع المسلمين، وإخبار النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الطاهرين(عليهم السلام) وإن خالف بعض من لايُعتدّ به في دخول بعض ما رسم في اسم القرآن.
ولاريبَ في أنّه محفوظ من النقصان، بحفظ الملك الديّان، كما دلَّ عليه صريح القرآن، وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر(4).
(1) سورة الحجر 15 : 9.
(2) حكى عنه في آلاء الرحمن 1: 65.
(3) تواتر القرآن: 54.
(4) كشف الغطاء 3: 453. -
۳۷۴
صفحه 374
هذه نماذج من آراء ونظريّات كبار علماء الإماميّة الأُصوليّين منهموالأخباريّين ، ويستفاد من مجموع هذه الكلمات أنّ القول بتحريف القرآن هو من الأباطيل التي بطلانها من الضرورات والبديهيّات ، وإذن ما أورد نفر قليل بعض من الروايات الضعيفة في كتبهم أو أظهروا الميل إليها، فهي ليست معتبرة لدى الإماميّة . وكيف يمكن نسبة القول بالتحريف إلى علماء الإماميّة ؟ أليست هذه النسبة من الافتراءات الواضحة والمسلّم حرمتها ؟ كيف يمكن أن يسند التحريف لجماعة يعتبرون قوامهم العقائدي ودوام أفكارهم مبنيّاً على القرآن العزيز ؟!
النكتة السادسة : الفرق بين القرآن وسائر الكتب السماويّة
أحد الأسئلة المهمّة والرئيسيّة هو الفرق بين القرآن وسائر الكتب السماويّة . فلماذا يدّعى عدم التحريف بشأن القرآن في حين بالنسبة لسائر الكتب تعتبر مسألة التحريف أمراً مسلّماً وواضحاً ; بحيث إنّ البعض(1) يستدلّ لإثبات تحريف القرآن عن هذا الطريق بأنّه من المسلّم وقوع التحريف في الكتب السابقة ، هذا من جهة ، ومن جهة اُخرى: ورد في روايات متواترة بين الشيعة والسنّة ، بأنّ ما وقع في الاُمم السابقة يجب أن يقع مثله في هذه الاُمّة ، مثل هذه الرواية :
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : كلّ ما كان في الاُمم السالفة، فإنّه يكون في هذه الاُمّة مثله حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذة(2) .
وبناءً عليه فإنّه من اللازم وقوع التحريف في القرآن أيضاً .
والتقصّي والتحقيق في مثل هذه الروايات، واستحصال النتائج بشأنها، لابدّ أن يبيّن ذلك في بحث شبهات القائلين بالتحريف(3) . أمّا الذي نحن بصدده في هذه
(1) فصل الخطاب : 35 ـ 42 ، الأمر الأوّل والثاني.
(2) كمال الدين : 576 ، وعنه بحار الأنوار 28: 10 ح15.
(3) يراجع البيان في تفسير القرآن : 220 ـ 234، ومدخل التفسير لاية العظمى الفاضل اللنكراني: 257ـ342. -
۳۷۵
صفحه 375
النكتة هو بيان الفارق الأساسي بين القرآن، وسائر الكتب السماويّة .
يقول البعض : إنّ التحريف الذي وقع في الكتب السابقة إنّما هو نفس التحريف المعنوي والتفسير بالرأي . والقرآن يدلّ على وقوع مثل هذا التحريف في كتب الاُمم السالفة ، ولا يدلّ على وقوع التحريف بالزيادة أو النقصان فيها(1) . بالإضافة إلى ذلك ليس هناك في الروايات وكلمات العلماء دليل وشاهد يبرهن لنا على وقوع التحريف بالزيادة أو النقصان ، فالقرآن يبيّن بكلّ صراحة بأنّ التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة هي محفوظة لدى علمائهم ، حيث يقول :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَئـةَ وَالاِْنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لاََكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) (2) .
النكتة الأساسيّة هي : أنّ هذا الكتاب الشريف طرح بصفته معجزة خالدة وأبديّة ، وممّا لا مناص منه أ نّه يجب أن يكون مصوناً من التحريف والتغيير دوماً، خلافاً لسائر الكتب السماويّة التي لا تطرح بعنوان معجزة خالدة .
النكتة السابعة : مراحل نزول القرآن ومواطنه
من النكات المهمّة جدّاً هي: أنّ محلّ النزاع هو في أيّ قرآن ، وبتعبير آخر في أيّة مرحلة من مراحل وجود القرآن الكريم ؟ كما أنّه من الواضح ، ويستفاد من القرآن المجيد أيضاً بأنّ لهذا الكتاب المقدّس مراحل ومواطن :
الموطن الأوّل : اللوح المحفوظ ، إنّ هذا الموطن كما هو واضح غير قابل للتحريف ; لأنّه بعيد عن أيدي أفراد البشر ، وهو في هذا الموطن موجود عند الله ومحفوظ من أيّ تغيير .
(1) صيانة القرآن من التحريف : 122 .
(2) سورة المائدة 5 : 66 . -
۳۷۶
صفحه 376
الموطن الثاني : مرحلة نزول القرآن بواسطة جبرئيل (عليه السلام) على الرسول (صلى الله عليه وآله) . وهذا الموطن غير قابل للتحريف أيضاً، بدليل العصمة التي يمتلكها جبرئيل (عليه السلام) بصفته واحداً من الملائكة .
الموطن الثالث : عرض الرسول (صلى الله عليه وآله) القرآن على الناس; بمعنى أنّ ما أنزله جبرئيل (عليه السلام) على قلب الرسول المبارك (صلى الله عليه وآله) فإنّ حضرته (صلى الله عليه وآله) عرضه نفسه للناس بلا أيّة زيادة ونقصان . ومن الواضح: أنّ القرآن في هذا الموطن لم يتعرّض للتحريف أيضاً ، وجُمع ونُظِّم في زمن الرسول بصورة كتاب مدوّن، والكثير من الأفراد أودعوه حفظاً في أذهانهم ، وقد نُقل ذلك القرآن في الأزمنة التالية بصورة متواترة إلى الأجيال التالية .
الموطن الرابع : وهو عبارة عن القرائين التي تحكي عن ذلك القرآن المتواتر ، وبعبارة اُخرى: القرائين المكتوبة إمّا المطبوعة أو الخطّية هي التي تحكي عن تلك الحقيقة ، ومن البديهي فإنّ التحريف في اختلاف القراءة وأمثال ذلك قد وقع في هذا القسم، ومن الممكن في هذا الموطن الرابع حصول التحريف بالزيادة أو النقصان . والداخل في محلّ النزاع إنّما هو ذلك القرآن المحكي المتواتر الذي هو موجود في كلّ زمان بعنوان حقيقة وشيء واحد، وبعنوان كلام الحقّ المنزل ، وقد نطقت بذلك آية الحفظ الشريفة : (وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) (1); فإنّ الضمير في كلمة «له» تعود إلى القرآن المنزل، وهو ليس أكثر من قرآن واحد وحقيقة واحدة، وبقيّة القرائين تحكي عنه، ولا شكّ من تعرّضها للتحريف .
وبناءً على ما بيّناه يتّضح بأنّ ما قاله بعض المحدثّين(2) بأنّ المراد من آية الحفظ هو: أنّ الله ـ تعالى ـ يحفظ كتابه في الموضع الذي ينزله فيه، مثلما كان محفوظاً في
(1) سورة الحجر 15 : 9.
(2) فصل الخطاب : 336 ـ 338. -
۳۷۷
صفحه 377
مكان أعلى قبل نزوله ، وليس المراد حفظه في الصحف والدفاتر; فإنّه كلام باطل عديم الدليل والشاهد ، بل إنّ قضيّة إعجاز القرآن تنفي ذلك ; لأنّ بقاء القرآن في مثل هذا الموطن ـ غير القابل للتحريف ـ ليس فيه جانباً إعجازيّاً .
النكتة الثامنة : إمكان تحريف القرآن من وجهة نظر العقل
يستفاد من آية الحفظ الشريفة بأنّ القرآن قابل للتحريف عقلاً ، ولكنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ حفظه من هذه الوصمة ، وإلاّ لو لم يكن للتحريف سبيل إلى القرآن عقلاً لم تعدّ هناك حاجة إلى الحفظ الإلهي ، ولكن ردّ الله ـ تعالى ـ هذا الإمكان العقليّ المحض بالوعد القطعي حفظه منه.
النكتة التاسعة : هل الاستدلال بالقرآن على عدم التحريف يستلزم الدّور ؟
إنّ الكثير من الكبار استدلّ بآيات من الكتاب الشريف لغرض إثبات عدم تحريف القرآن ، والذي نطالعه ونبحثه في هذه النكتة هو: هل الاستدلال بالآيات الشريفة من أجل بطلان التحريف يستلزم الدور المحال، أم لا ؟
البعض يعتقد أنّ الاستدلال بالآيات الشريفة يستلزم الدور ، وذكر لذلك تقريرين :
التقرير الأوّل : أنّ نفي تحريف الكتاب متوقّف على حجّية هذه الآيات، في حين أنّ حجّية هذه الآيات متوقّفة على نفي التحريف ، إذن نفي التحريف يكون متوقّفاً على نفي التحريف .
التقرير الثاني : أنّ حجّية الآيات المستدلّ بها متوقّفة على نفي التحريف ، في حين نفي التحريف متوقّف على حجّية هذه الآيات أيضاً ، وفي النتيجة فإنّ حجّية الآيات الشريفة متوقّفة على حجّية هذه الآيات المستدلّ بها، وهذه هي نفس
-
۳۷۸
صفحه 378
الدورالمحال في العلّية .ولقد وردت أجوبة مختلفة عن هذه الشبهة نتناول بحثها الآن :
الجواب الأوّل : ردّ المرحوم المحقّق الخوئي في كتاب البيان القيّم بما يلي :
وهذه شبهة تدلّ على عزل العترة الطاهرة عن الخلافة الإلهيّة، ولم يعتمد على أقوالهم وأفعالهم; فإنّه لا يسعه دفع هذه الشبهة، وأمّا من يرى أنّهم حجج الله على خلقه، وأنّهم قرناء الكتاب في وجوب التمسّك، فلا ترد عليه هذه الشبهة; لأنّ استدلال العترة بالكتاب، وتقرير أصحابهم عليه يكشف عن حجّية الكتاب الموجود وإن قيل بتحريفه، غاية الأمر أنّ حجّية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقّفة على إمضائهم (1).
وهذا الجواب لا يخلو من إشكال ، وذلك :
أوّلاً : أنّ هذا الجواب إنّما يكون مفيداً بالنسبة للمعتقدين بولاية الأئمـّة صلوات الله عليهم أجمعين ، في حين أنّه يجب علينا إبداء جواب كاف وواف أمام مثل هذه الشبهة بحيث يمكن أن تتقبّله أيّة فرقة .
وثانياً : هذا الجواب في الحقيقة يعتبر تسليماً بأصل الشبهة ، كيف ؟! فإنّه بناءً عليه لا يتمّ الاستدلال على عدم التحريف بالآيات الشريفة، وإنّما الاستدلال بالآيات سيتمّ بضمّ إمضاء وتقرير المعصوم (عليه السلام) ، وهذا المطلب ـ مضافاً إلى كونه خلافاً للمدّعى ـ مخالف لظاهر حديث الثقلين الشريف، الذي يُستفاد منه بوضوح بأنّ القرآن فرضٌ بصفته الثقل الأكبر، وبصفته حجّةً ودليلاً مستقلاًّ .
الجواب الثاني : أنّ الذين يدّعون تحريف القرآن يعتبرون دائرته محدودة بآيات خاصّة والتي أشارت بعض الروايات(2) إليها ، وأنّ الآيات التي استدلّ
(1) البيان في تفسير القرآن: 209.
(2) ستأتي ذكرها في ص 396 ـ 401. -
۳۷۹
صفحه 379
بواسطتها لأجل عدم التحريف هي ليست ضمن تلك الآيات المحرّفة ، وبعبارة اُخرى: إنّ القائلين بالتحريف هم أنفسهم يعتقدون بعدم تحريف هذه الآيات .
هذا الجواب أيضاً ليس خالياً عن إشكال ; لأنّ فيما يتعلّق بالتحريف توجد نظريّتان : البعض يعتقد أنّه طبقاً لبعض الروايات قد حدث تحريف في موارد معيّنة في آيات القرآن الشريفة ، وطبقاً لهذه النظريّة الجواب صحيح . أمّا النظريّة الثانية فهي بغضّ النظر عن الروايات تظهر وجود العلم الإجمالي بتحريف الكتاب ، ودائرة العلم الإجمالي تشمل مثل هذه الآيات التي استدلّ بها على عدم التحريف ، وبناءً على هذه النظريّة فهذا الجواب الثاني غير صحيح .
الجواب الثالث : في مقام الردّ على هذا الإشكال قال البعض : الإجماع قائمٌ على أنّ هذه الآيات لم تتعرّض للتحريف (1).
وهذا الجواب أيضاً قابلٌ للمناقشة ; لأنّ القائلين بالتحريف إذا ما ادّعوا لديهم العلم الإجماليّ بتحريف الكتاب; فإنّهم لا يتمكّنون من إخراج هذه الآيات من دائرة العلم الإجمالي ، وبتعبير آخر لايمكن عدّهم ضمن المجمعين ، وإلاّ يلزم من ذلك نفي نظريّتهم .
الجواب الرابع : وقد قال الوالد المحقّق الفقيه المعظّم في مقام هذه العويصة مايلي :
إنّ الاستدلال إن كان في مقابل من يدّعي التحريف في موارد مخصوصة; وهي الموارد التي دلّت عليها روايات التحريف، فلا مجال للمناقشة فيه; لعدم كون آية الحفظ من تلك الموارد على اعترافه; ضرورة أنّه لم ترد رواية تدلّ على وقوع التحريف في آية الحفظ أصلاً.
وإن كان في مقابل من يدّعي التحريف في القرآن إجمالاً; بمعنى أنّ كلّ آية عنده
(1) اكذوبة تحريف القرآن: 12. -
۳۸۰
صفحه 380
محتملة لوقوع التحريف فيها، وسقوط القرينة الدالّة على خلاف ظاهرها عنها.
فتارةً: يقول القائل بهذا النحو من التحريف بحجّية ظواهر الكتاب مع وصف التحريف.
واُخرى: لا يقول بذلك، بل يرى أنّ التحريف مانع عن بقاء ظواهر الكتاب على الحجّية، وجواز الأخذ والتمسّك بها، ويعتقد أنّ الدليل على عدم الحجّية هو نفس وقوع التحريف.
فعلى الأوّل: لا مجال للمناقشة في الاستدلال بآية الحفظ على عدم التحريف; لأنّه بعدما كانت الظواهر باقية على الحجّية، ووقوع التحريف غير مانع عن اتّصاف الظواهر بهذا الوصف، كما هو المفروض، نأخذ بظاهر آية الحفظ، ونستدلّ به على العدم كما هو واضح.
وعلى الثاني: الذي هو عبارة عن مانعيّة التحريف عن العمل بالظواهر والأخذ بها، فإن كان القائل بالتحريف مدّعياً للعلم به، والقطع بوقوع التحريف في القرآن إجمالاً، وكون كلّ آية محتملة لوقوع التحريف فيها، فالاستدلال بآية الحفظ لا يضرّه ، ولو كان ظاهرها باقياً على وصف الحجّية; لأنّ ظاهر الكتاب إنّما هو حجّة بالإضافة إلى من لا يكون عالماً بخلافه; ضرورة أنّه من جملة الأمارات الظنّية المعتبرة، وشأن الأمارة اختصاص حجّيتها بخصوص الجاهل بمقتضاها.
وأمّا العالم بالخلاف المتيقّن له، فلا معنى لحجّية الأمارة بالإضافة إليه، فخبر الواحد مثلاً الدالّ على وجوب صلاة الجمعة إنّما يعتبر بالنسبة إلى من لا يكون عالماً بعدم الوجوب. وأمّا بالإضافة إلى العالم، فلا مجال لاعتباره بوجه، فظاهر آية الحفظ ـ على تقدير حجّيته أيضاً ـ إنّما يجدي لمن لا يكون عالماً بالتحريف، والبحث في المقام إنّما هو مع غير العالم.
وإن كان القائل به لا يتجاوز عن مجرّد الاحتمال، ولا يكون عالماً بوقوع التحريف في الكتاب، بل شاكّاً ، فنقول: