pic
pic
  • ۳۳۱

    صفحه 331

    المتقدِّمين ، إلى درجة أنّ الشيخ الطوسي (قدس سره) في «الخلاف» جعل دليله في الكثير من المسائل الإجماع ، ورغم وجود الاختلاف في مباني الإجماع أنّنا نأخذ بنظر الاعتبار هذه الحقيقة في هذا البحث ، وهي: أنّه لو كان منهج فقيه معيّن يقوم على عدم الاعتناء والاهتمام بالمشهور، أو موارد الإجماع ، فمن الطبيعي أن تكون لفتاواه صبغة اُخرى .

    والنراقي (قدس سره) كان شديد الاهتمام برأي المشهور، أو المطابق للإجماع، ومن المحتمل أنّ الشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي كان يدافع دائماً عن الرأي المشهور في نظريّاته وآرائه الفقهيّة ، قد استلهم ذلك من النراقي ، ورغم أنّ النراقي (قدس سره) أفتى في بعض الموارد على خلاف رأي المشهور والإجماع ، إلاّ أنّه سعى في تأييد ودعم المشهور في الكثير من الموارد ، مثلاً في مسألة عدم صحّة النيابة عن الكافر ، نراه يناقش جميع الأدلّة، رغم أنّها جيّدة حسب الظاهر ، ثمّ يتمسّك في هذه المسألة بالإجماع(1) .

    وهكذا نجده لا يقبل بالرأي المخالف للمشهور، لاسيّما إذا كانت الشهرة عظيمة . ويقول :

    . . . الذي إن سلمت دلالته، وخلوّه عن المعارض، يكون مردوداً بالشذوذ ومخالفة الشهرة العظيمة(2) .

    ويقول في موضع آخر :

    هذا، مع أنّ الكلّ على فرض الدلالة مخالفة للشهرة القديمة والجديدة، بل الإجماع ، فعن حيّز الحجّية خارجة(3) .


    (1) مستند الشيعة 11: 118ـ 120.
    (2) مستند الشيعة 16: 125.
    (3) مستند الشيعة 16: 249.
  • ۳۳۲

    صفحه 332

    بينما نجد في منهج الفقهاء المعاصرين أنّ الكثير من موارد الإجماع قدوضعت في قفص المناقشة على أساس كونها إجماعاً مدركيّاً، أو محتملةالمدركيّة ، وتدريجاً بدأ الإجماع ينسحب من دائرة الدليليّة والحجّية ويخرج منها ، في حين أنّ النراقي (قدس سره) لا يقبل بهذا المنهج في الفقه(1) ، فالإجماع يحظى بأهمّية ومكان رفيع في نظره .

    ولا يخفى أنّ النراقي (قدس سره) في بعض الموارد عندما ينقل الإجماع عن عدّة من الفقهاء ، لا يلتزم بذلك الإجماع إذا قام الدليل على خلافه ، وكذلك هناك بعض الموارد تكون فيها الرواية قاصرة الدلالة على المطلوب ، فيكون الإجماع بمثابة القرينة على ذلك ، وقد سبق بيانه .

    6 ـ لزوم التحرّك الاجتهادي في إطار الضوابط الفقهيّة

    من الاُمور الضروريّة للفقيه لكي يضعها نصب العين هو أن لا يخرج الفقيه في حركته الاجتهاديّة ومنهجه الاستنباطي عن دائرة الضوابط الفقهيّة ، وأن لا يُولي أهمّية للمسائل التي لاترتبط بالفقه ، وفي هذا الصدد لابدّ من التوجّه إلى اُمور :

    الأوّل: ينبغي على الفقيه أن يبتعد تماماً عن علل الأحكام، ولا ينخدع بعناوين مغرية باسم فلسفة الأحكام، أو علل التشريع ، فأوّل وظيفة للفقيه هي: أن يرى في نفسه التبعيّة للدليل ، ويفتي في كلّ مسألة بمقتضى ما يقوم عليه الدليل . نعم ، إذا كان هناك تصريح بالعلّة في الدليل ، فيجب على الفقيه العمل بها بمقتضى قاعدة «العلّة تعمّم وتخصّص» على فرض صحّتها ، وهذا يدخل أيضاً في دائرة العمل بمقتضى الدليل .

    أمّا ما هو جدير بالنظر في هذا القسم من البحث هو: أنّ الفقيه إذا تحرّك من


    (1) مستند الشيعة 11: 11 ـ 12.
  • ۳۳۳

    صفحه 333

    البداية لتحصيل فلسفة الأحكام، وأراد من خلال ذلك التصرّف بالدليل على مستوى التوسعة والتضييق، أو التصرّف في الشرائط والحدود لذلك الدليل ; فإنّه قد حظيَ طريق غير صحيح في عمليّة الاستنباط قطعاً ، حيث ينبغي للفقيه في استنباط الأحكام أن يضع نفسه قبل كلّ شيء في معرض الأدلّة، ويطابق نظره مع مقتضيات الأدلّة .

    هذه الاُمور مشهودة تماماً في منهج النراقي للاستنباط ، فلم يلاحظ عليه أنّه في مورد من الموارد توصّل إلى حكم من الأحكام عن طريق فلسفة حكم آخر ، ومع الأسف فإنّه في زماننا هذا لا نشاهد هذا المنهج في الاستنباط ، فالبعض يتوجّه قبل مراجعة الأدلّة إلى حكمة وغرض من أغراض التشريع في أمر من الاُمور ، ثمّ يبحث في الأدلّة بما يتناسب مع ذلك الغرض ، وهذا الأمر سيفضي في النهاية إلى زوال وتلاشي الفقه ، فروح الفقه في الأساس هي روح التعبّد بالأدلّة .

    الثاني: رغم أنّ الكثير من العلوم لها تأثير تامّ في ترشيد وتقوية علم الفقه ، وعلى الفقيه أن يكون محيطاً بها، ومسلّماً بمسائلها ، إلاّ أنّه يجب اجتناب العلوم التي لا دور لها في عمليّة الاستنباط، أو التي من شأنها أن تحرف الاستنباط عن مساره الصحيح .

    مثلاً: لا ينبغي للفقيه أبداً أن يدخل المسائل الأخلاقيّة، وعلم الأخلاق، والروايات الواردة في مقولة الأخلاق في الفقه ، ففي الفقه يجب ملاحظة ورعاية المعايير الفقهيّة للأحكام، والتي قد تتطابق مع المعايير والضوابط الأخلاقيّة في كثير من الأحيان ، مثلاً إذا أجّر شخص حانوته لآخر في مدّة معيّنة ، فبمقتضى الفقه يجب على المستأجر تخلية ذلك المكان مع انتهاء مدّة الإجارة ، فبقاؤه فيه يكون بعنوان الغصب، والتصرّف غير المشروع حينئذ ، في حين من الممكن في دائرة الأخلاق أنّ إخراج مثل هذا الشخص الذي ليس له مكان آخر، غير صحيح من

  • ۳۳۴

    صفحه 334

    قبل المالك ، وهكذا في الكثير من أحكام المعاملات نرى انطباق المعايير الفقهيّة الخاصّة، دون أن يكون للمسائل الأخلاقيّة أيّ تدخّل فيها .

    وبالطبع، فنحن لا نرى أنّ الشارع المقدّس لم يأخذ بنظر الاعتبار المسائل الأخلاقيّة في عمليّة تشريع الأحكام كلاّ ، وإنّما نقول : بأنّ للفقه معايير خاصّة ينبغي ملاحظتها في كلّ مسألة من المسائل الفقهيّة .

    هذا المطلب له تأثير كبير على البحوث المتعلّقة بحقوق الزوجين، والروابط العائليّة ، والمرحوم النراقي (قدس سره) رغم تبحّره الواسع في علم الأخلاق ، لم يخلط أبداً المسائل والقواعد الفقهيّة مع الضوابط الأخلاقيّة .

    الثالث: من الاُمور التي ينبغي للفقيه الاهتمام بها هو: أنّ الفقيه الجامع للشرائط والذي له مشروعيّة الإفتاء، بحيث تمرّ فتواه هذه من خلال الاعتقاد بولاية الأئمـّة المعصومين(عليهم السلام) وإمضائهم ، هذا الفقيه إلى أيّ حدٍّ يمكنه إدخال عنصر الولاية والإمامة في المسائل الفقهيّة ؟

    وأساساً، هل أنّ هذا الأمر يعتبر أحد المعايير والضوابط المتّخذة في منهج الاستنباط ؟

    من الواضح أنّه لا يمكن لأحد إنكار تأثير هذا العنصر في عمليّة الاستنباط لدى أغلب فقهاء الإماميّة ، وينبغي القول أنّ الاعتقاد بالولاية يعتبر في مستوى أحد الضوابط، والمعايير الفقهيّة المؤثِّرة في الاستنباط الفقهي ، إلاّ أن يكون هناك دليل خاصّ على عدم التأثير .

    وهذا المطلب يتجلّى بوضوح في المنهج الاستنباطي للنراقي (قدس سره) ، مثلاً في مسألة هل أنّ الشهادة الثالثة لها عنوان الجزئية في الأذان ، أو لا ؟ فبعد أن يذكر هذا الفقيه الكبير الأقوال على التحريم والكراهة ، يورد العمومات التي ترغّب وتحثّ على هذه الشهادة مطلقاً، ويستند عليها ، وكذلك يورد الروايات التي تؤكّد على لزوم

  • ۳۳۵

    صفحه 335

    الشهادة الثالثة بعد الإتيان بالشهادتين على التوحيد والنبوّة ، ويضيف :

    وعلى هذا فلا بُعد في القول باستحبابها فيه; للتسامح في أدلّته ، وشذوذ أخبارها لا يمنع عن إثبات السنن بها ، كيف؟! وتراهم كثيراً يجيبون عن الأخبار بالشذوذ، فيحملونها على الاستحباب(1) .

    ومن هذا الكلام يتبيّن أنّه يكتفي للقول بالجزئيّة على نحو الاستحباب ببعض الأخبار الشاذّة .

    وهكذا في مسألة دفع الزكاة للمخالفين والعوامّ من الشيعة، يورد كلام صاحب الحدائق(2)، الذي يستشكل في دفع الزكاة إلى عوامّ الشيعة الذين لايعرفون الله سبحانه إلاّ بهذا اللفظ، ثمّ أجاب عنه أنّه :

    وهو كذلك ; إذ موضع الزكاة من يعرف صاحب هذا الأمر، ومن كان من أهل الولاية ، ومن لم يعرف الأئمـّة(عليهم السلام)، أو واحداً منهم، أو النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، لا يصدق عليه أنّه يعرف صاحب هذا الأمر ، ولا يعلم أنّه من أهل الولاية، وأنّه العارف . . . وكذا من لا يعرف الترتيب في خلافتهم(3) .

    وكنموذج آخر في هذا المجال ما ذكره في باب مكروهات القبر، ووضعه موضع المناقشة ، وهو البناء على القبر ، فقد ذهب الشهيد في الدروس(4) ، وجماعة مثل صاحب الرياض(5) ، إلى استثناء الأنبياء والأئمـّة(عليهم السلام) من هذا الحكم ، وذكروا له ثلاث أدلّة :

    الأوّل : إجماع الإماميّة ، وهذا يصلح لتخصيص عمومات الكراهة .


    (1) مستند الشيعة 4 : 487 .
    (2) الحدائق الناضرة 12: 206.
    (3) مستند الشيعة 9 : 299.
    (4) الدروس الشرعيّة 1 : 116 .
    (5) رياض المسائل 2: 237 ـ 238.
  • ۳۳۶

    صفحه 336

    الثاني : أنّه يوجد بناء على قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولم ينكر الأئمـّة(عليهم السلام) على ذلك أبداً .

    الثالث : الأخبار التي توصي باحترام قبور الأئمـّة(عليهم السلام) .

    ولكنّ النراقي (قدس سره) يناقش هذه الأدلّة بأجمعها ، ثمّ يؤيّد ذلك الحكم من طريق آخر ، وذلك من خلال الروايات التي تذكر فضيلة تعمير قبور الأئمـّة(عليهم السلام); من قبيل ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا عليّ من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس(1) .

    وكذلك الروايات التي ورد التصريح فيها بالوقوف في مقابل الروضة(2)، أو القبّة(3)، أو تقبيل العتبة(4) ، (5).

    7 ـ الفقيه، والاستقلال في عمليّة الاستنباط

    الفقيه الجامع لا ينبغي له إطلاقاً أن يقع تحت تأثير استدلال الآخرين ، بل يجب أن يكون مستقلاًّ في الاستدلال ، ونشير هنا إلى عدّة أُمور :

    الأوّل : ينبغي للفقيه أن يستعرض أدلّة الآخرين، ويبحثها بدقّة وتدبّر كامل ، ثمّ يرى رأيه مستقلاًّعن كلماتهم ،وحتّى لو كان هناك إجماعات منقولة تصلح لتكون مؤيّدة على المطلب، إلاّ أنّه لاينبغي له التسليم لها من دون التحقيق في دليل الطرف المقابل .

    وقد نقل النراقي (قدس سره) في بعض المسائل الفقهيّة عدّة إجماعات منقولة عن الفقهاء الكبار ، ولكن رغم ذلك لم يهتمّ بها; لوجود الدليل على الخلاف ، مثلاً في مسألة إذا


    (1) تهذيب الأحكام 6: 22 ح50 ، وعنه وسائل الشيعة 14: 383 ، كتاب الحجّ، أبواب المزار ب26 ح1.
    (2) مصباح الزائر: 52، البلد الأمين: 278، وعنهما بحار الأنوار 100: 197 ح14 و15.
    (3) مصباح الكفعمي: 473 فصل 41 ، البلد الأمين : 276 ، وعنهما بحار الأنوار 100: 284 وج102: 116.
    (4) بحار الأنوار 100 : 284 ، 359 ، وج101: 232 ، 259، 346 و352، 359 وج102: 620 ح7.
    (5) مستند الشيعة 3: 281.
  • ۳۳۷

    صفحه 337

    تحقّقت منه الاستطاعة الماليّة ، ولكنّه لم يتمكّن من الذهاب إلى الحجّ للشيخوخة، أو المرض، أو وجود العدوّ ، ففي صورة اليأس واستقرار الحجّ قبل العذر، ذهب جماعة منهم: كصاحب المسالك(1)، والروضة(2)، والمفاتيح(3) إلى لزوم الاستنابة ، وادّعوا على ذلك الإجماع أيضاً، مضافاً إلى الاستدلال بالروايات .

    ولكنّ النراقي (قدس سره) ناقش في الإجماعات، وفي الروايات أيضاً ، وأخيراً قال: فالأقرب إذن ما يقتضيه الأصل; وهو عدم الوجوب ، وبالتالي يرى استحباب النيابة في هذه الصورة(4) .

    فيستفاد من هذا المثال بصورة جيّدة أنّ تبحّر النراقي ودقّت نظره تتجلّى في عدم استسلامه للإجماعات بسهولة ، ولا يقبل بالتفسير الذي يذكره الفقهاء للرواية ، بل يدرس الرواية بصورة مستقلّة ، وفي هذه المسألة نفسها يرى بونٌ شاسع بين استنباط النراقي (قدس سره) ، واستنباط الفاضل الهندي في «كشف اللثام»(5); الذي كان يعيش قبل النراقي (قدس سره) بمائة عام .

    الثاني : من الاُمور التي يجب الأخذ بها بنظر الاعتبار في دائرة الاستقلال في الاستنباط هو: أنّ الفقيه لا يكتفي باستدلال الأصحاب على حكم معيّن ، بل في الموارد التي كان في وسعه إضافة دليل آخر يقوم بذلك .

    وبعبارة أُخرى : أنّه لا ينبغي للفقيه في مقام الاجتهاد والاستنباط أن يكتفي بالأدلّة التي ذكرها الآخرون في إثبات المطلوب ، حيث يمكن أن يكون هناك دليل لم يلتفت إليه القوم ، وأساساً فإنّ فنّ الاجتهاد يتبلور ويتجلّى في هذا البُعد من


    (1) مسالك الأفهام 2: 138.
    (2) الروضة البهيّة 2: 167.
    (3) مفاتيح الشرائع 1: 298.
    (4) مستند الشيعة 11 : 70 ـ 74.
    (5) كشف اللثام 5 : 112 ـ 114.
  • ۳۳۸

    صفحه 338

    عمليّة الاستنباط الفقهي .

    ونواجه في «المستند» للنراقي (قدس سره) هذا المعنى أيضاً ، فلا نرى منه خضوعاًفي مقابل استدلالات الآخرين .

    مثلاً : في مورد نيابة الصبيّ في الحجّ ، ذهب جماعة إلى عدم الصحّة ، وتمسّكوا في ذلك بعدم مشروعيّة عبادات الصبيّ وقالوا: إنّ عبادات الصبيّ تمرينيّة ، فلايصدق عليها عنوان الواجب ولا المستحبّ (1).

    ويقول النراقي (قدس سره) في ردّه لهذا الدليل أنّه :

    أوّلاً ـ منع خروج عبادات الصبيّ عن الشرعيّة بإطلاقها، وإنّما هي خارجة عن الواجبة على نفسها.

    وثانياً ـ سلّمنا التمرينيّة، لكنّها مخصوصة بأوامر الله سبانه لا ما يستأجر للغير. ولا يلزم من عدم وجوبها أو ندبها على نفسه ، عدم إجزائها عمّن تجب عليه، أو تندب(2) .

    وعليه : رغم أنّ المشهور(3) يرى بطلان نيابة غير البالغ ، وحتّى أنّ صاحب المدارك(4) نسب هذا القول إلى معروف الأصحاب، واستدلّ عليه بالأصل، والقاعدة وأدلّة أُخر ، إلاّ أنّ النراقي (قدس سره) (5) ناقش في جميع تلك الأدلّة ، وردّها الواحدة تلو الاُخرى ، وسلك بنفسه طريقاً آخر ; وهو الإجماع المركّب، وعدم القول بالفصل في الصوم والصلاة من جهة ، والحجّ من جهة اُخرى ; أي كما أنّ


    (1) كشف اللثام 5 : 149 ـ ذخيرة المعاد: 568.
    (2) مستند الشيعة 11 : 110.
    (3) كشف اللثام 5 : 149 ، ذخيرة المعاد : 568 .
    (4) مدارك الأحكام 7 : 112 .
    (5) مستند الشيعة 11 : 108 ـ 111.
  • ۳۳۹

    صفحه 339

    الصوم والصلاة الاستئجاريّين لغير المكلّف لا تقعان صحيحة ، فكذلك في الحجّ أيضاً .

    8 ـ الفقيه، وكيفيّة التعامل مع الاحتياط

    عندما ندرس آثار وكتابات بعض الفقهاء ، نلاحظ أنّ ذلك الفقيه له اهتمام ملحوظ في مقام الفتوى بمسألة الاحتياط ، وهذا الأمر قد يؤدّي إلى مشاكل عديدة أحياناً ، فقد يلاحظ في مسألة معيّنة لم يقم عليها دليل محكم ، أنّ فريقاً من الفقهاء العظام يسلكون فيها طريق الاحتياط ، مثلاً في باب الحجّ حيث يجب أن يبتدئ في طوافه من الحجر الأسود وينتهي إليه ، فقد ذهب بعض الفقهاء ـ كالعلاّمة ـ إلى أنّ أوّل جزء من «الحجر الأسود» يجب أن يكون محاذياً لأوّل جزء من مقاديم البدن(1)، بحيث إنّه بعد النيّة يمرّ جميع البدن من ذلك المكان ، ثمّ اختلفوا في أنّ أوّل جزء من البدن هل هو الأنف، أو البطن، أو إبهام القدمين ؟

    وبعد أن ينقل النراقي (قدس سره) هذا المطلب يختار رأياً آخر ; لأنّ مثل هذه النظريّات ليس لها دليل سوى الاحتياط . وقال :

    ولا يخفى أنّه إلى الوسواس أقرب منه إلى الاحتياط(2) .

    ويستفاد من هذا البيان أنّ بالاحتياط قد سلك مسلكاً آخر أحياناً في كلمات الفقهاء أبعده عن حقيقته ، وليس في ذلك رضا الشارع المقدّس قطعاً ، وماأكثر ماتكون هذه الحالة معلولة للوساوس النفسانيّة والشيطانيّة، حيث ينبغي للفقيه اجتنابها حتماً ، وفي ذلك يقول النراقي (قدس سره) بعد ذكره لهذا المطلب : و بالجملةهذا أمر لا دليل عليه ولا شاهد، لايناسب تسميته احتياطاً، بل اعتقاد وجوبه


    (1) تذكرة الفقهاء 8 : 87 .
    (2) مستند الشيعة 12: 70 .
  • ۳۴۰

    صفحه 340

    خلاف الاحتياط(1) .

    ومن هنا ينبغي النظر إلى مقام الاحتياط في الفقه ، وبيّنٌ أنّ نفس الدليل يقتضي في بعض الموارد الاحتياط، ويدفع الفقيه إلى سلوك الاحتياط، كما في باب الفروج والدماء، والحدود، وأمثال ذلك إذا لم يتمكّن الفقيه من التوصّل إلى نتيجة مقبولة من خلال الأدلّة ، ففي بعض الموارد يقول بلزوم الاحتياط ، وفي البعض الآخر يقول بالرجحان ، إلاّ أنّ فقهاءنا قلّما توجّهوا إلى هذه الحقيقة ، وهي: أنّه ما أكثر ما يؤدّي الاحتياط إلى الوقوع في العسر والحرج والمشقّة لنوع الناس عامّة .

    وهذا الأمر يفضي في النهاية إلى الابتعاد عن الدِّين، أو عدم الاهتمام به، وحينئذ لايمكن التمسّك بقوله (عليه السلام) : أخوك دينك فاحتط لدينك(2) .

    وإجمالاً يمكن القول بأنّ الاحتياط أمر مطلوب غالباً بالنسبة إلى الأفراد والأشخاص . وأمّا بالنسبة إلى المسائل الكلّية والقضايا الحكوميّة، فلا يكون كذلك دائماً ، مثلاً في باب الحجّ يُبحث عن مسألة تبعيّة الحاجّ للحاكم من أهل السنّة بالنسبة لتعيين أوّل الشهر ، وبالتالي بالنسبة إلى الوقوف في عرفات، والمشعر، والمبيت بمنى ، فهنا لا يمكن القول بأنّ مع احتمال الخلاف يترجّح الاحتياط .

    ومن هنا نرى أنّ النراقي (قدس سره) في فتاواه الفقهيّة يتجنّب الاحتياطات التي ليس لها منشأ فقهيّ ، بل قد تكون لها نتائج سلبيّة ، ففي مسألة اعتبار وجود الـمَحْرم في استطاعة المرأة ، يقول ـ بعد الاستدلال بالأصل والعمومات على عدم شرطيّة


    (1) مستند الشيعة 12 : 71 .
    (2) أمالي الطوسي: 110 ح168 ، وعنه وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب12 ح46.

۱۰۵,۷۸۳ الزيارة