-
۱۲
صفحه 12
المسح على الخفّين(1) .
وفيه : أنّ المسح على الخفّين ونظيره من موارد الاستثناء ، ونحن نقول أيضاً بعدم جريان التقيّة فيها .
الأمر الرابع : الاحتجاج بما رواه الكليني عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال : إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ أنزل على نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كتاباً ، فقال جبرئيل : يا محمّد هذه وصيّتك إلى النجباء .
فقال : ومن النجباء؟
فقال : عليّ بن أبي طالب وولده(عليهم السلام)، وكان على الكتاب خواتم ـ إلى أن قال :ـ وفي الخاتم الخامس : وقل الحقّ في الأمن والخوف، ولا تخش إلاّ الله تعالى(2) .
وهذه الرواية صريحة بأنّ اُولئك الكرام ليس دينهم التقيّة، كما تزعمه الشيعة(3) .
وفيه : أنّ التقيّة ـ كما سيأتي(4) ـ مشروعة فيما إذا لم ينجرّ إلى الفساد في الدين ، وفي بعض الموارد يحتمل أنّ سكوت الإمام (عليه السلام) موجب لفساد الدين ، فيجب عليه إظهار الحقّ .
وبهذا البيان يظهر فساد ما قال أيضاً : لو كانت التقيّة واجبة لم يتوقّف إمام الأئمـّة عن بيعة خليفة المسلمين (5). فتدبّر في فساده .
فيا عجباً من هذه الاستدلالات الموهونة البعيدة عن المتفقّه، فضلاً عمّن يسمّى بـ «الفقيه» ، ومن الواضح: أنّ بُعد العامّة عن الفقه الأصيل هو السبب لهذه
(1) روح المعاني 3: 164.
(2) الكافي 1: 279 ـ 280 ح1 و 2.
(3) روح المعاني 3: 165.
(4) في ص29 ـ 31.
(5) روح المعاني 3: 166. -
۱۳
صفحه 13
الاحتجاجات .
وكيف كان، إنّ الشيخ الأعظم قد دقّق النظر وأتمّ الفكر في مبحث التقيّة(1) .
وأكثر ما يوجد في كتب الفقهاء المتأخّرين عنه من التحقيقات فيها قد اُخذت جذورها من كلماته ، سيّما مبحث الإجزاء ; فإنّه قد استدلّ بروايات معتبرة لم نرَ الاستدلال بها قبل الشيخ في كلمات من تعرّض لهذا البحث، كالمحقّق الثاني في رسالته(2)، والشهيد الأوّل في قواعده(3) .
وهذه الرسالة التي بين يديك كتبتها أداءً لبعض حقوقه الكثيرة على جميع المجتهدين، وإجابة لطلب بعض الأعزّاء الكرام من المسؤولين في المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئويّة الثانية لميلاد الشيخ الأعظم ، واُهديها إلى روحه الشريف، الذي يكون الاجتهاد مرهوناً له، والفقه موسّعاً ومُحقّقاً بتحقيقاته ، وأرجو من الله تعالى أن يتقبّلها بقبول حسن، ومن القرّاء الكرام أن ينظروا فيها بعين الدقّة والإغماض عن القصور. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (4) .
والبحث يقع هنا في فصول:
(1) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 71 ـ 103.
(2) رسائل المحقّق الكركي 2: 51.
(3) القواعد والفوائد 2: 155 ـ 159، قاعدة 208.
(4) سورة فاطر 35: 10. -
۱۴
صفحه 14
-
۱۵
صفحه 15الفصل الأوّل :
كلمة التقيّة
وهي إمّا مأخوذة من الثلاثي المجرّد «تقى يتقي تقيّة»، وإمّا من الثلاثي المزيد «اتّقى يتّقي اتّقاء وتقيّة»، وعلى كلا التقديرين تكون مصدراً ، كما هو المستفاد من كلمات اللغويّين(1) ، وتكون بمعنى التحذّر والتحفّظ مطلقاً ، ولا يكون اسماً للمصدر، كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2) . هذا بحسب اللغة .
وأمّا في اصطلاح الفقهاء : فقد عرّفه الشيخ الأعظم «بأنّها التحفّظ عن ضرر الغير في قول، أو فعل مخالف للحقّ»(3) .
وفي هذا التعريف قد اُخذ قيود ثلاثة :
الأوّل : التقييد بأنّ القول، أو الفعل لأجل التحفّظ عن ضرر الغير ; سواء كان ضرراً عاجلاً، أو آجلاً ، وسواء كان الضرر ماليّاً، أو عرضيّاً، أو نفسيّاً .
الثاني : الموافقة في مجرّد القول، أو العمل ، واحترز بهذا عن الموافقة بحسب الاعتقاد .
(1) مجمع البحرين 3: 1966، لسان العرب 6: 480.
(2 ، 3) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 71.
صفحه 16الثالث : تقييد القول والفعل بأنّهما مخالفان للحقّ .
وقد وقع الخلاف في القيد الأوّل والثالث ، فذهب جمع(1) إلى أنّ التقيّة إذا كانت خوفيّاً ، فمعناها التحفّظ لأجل دفع الضرر ، وهذا البيان لا يجري في التقيّة المداراتيّة المستفادة من بعض الروايات(2) التي لا يكون في مخالفتها ضرر، لا عاجلاً،ولا آجلاً .
وذهب بعض(3) إلى أنّ التقيّة أعمّ من أن يكون مخالفاً للحقّ، أو موافقاً له ، ففعل المنافقين في قبال المسلمين يكون من موارد التقيّة، ويصدق عليه عنوانها وإن كان موافقاً للحقّ .
وفيه: أنّ فعل المنافقين خارج عن التقيّة في اصطلاح الفقهاء ; فإنّهم في مقام بيان التقيّة التي ترتّب عليها أحكام خاصّة ; تكليفيّة ووضعيّة ، ولا يترتّب على فعلهم أثر من هذه الآثار .
وليعلم أنّ التقيّة بحسب الفقه دائرتها أوسع من التقيّة بحسب العقل ; فإنّها واجبة حتّى في صورة الأمن وعدم وجود المداراة أيضاً، كما ورد في المأثور : عليكم بالتقيّة; فإنّه ليس منّا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيّته مع من يحذره(4) ، ففي هذه الصورة تكون واجبة وإن لم يكن في البين خوف، أو مداراة، أو كتمان .
(1) لم نجده عاجلاً.
(2) وسائل الشيعة 16: 219 ـ 220، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب26.
(3) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب: 630.
(4) الأمالي للطوسي (رحمه الله) : 293 ح569، وعنه وسائل الشيعة 16: 212، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24 ح29.
صفحه 17الفصل الثاني : تقسيمات التقيّة
إنّ التقيّة لها جهات أربع تنقسم من كلّ جهة إلى أقسام :
الجهة الاُولى : التقيّة بحسب الذات تنقسم إلى الخوفي ، والمداراتي ، والإكراهي ، والكتماني .
والمراد من الخوفي أن يكون منشأ التقيّة هو الخوف من ضرر الغير; بأن يخاف إيصال الضرر إليه ; سواء كان الضرر على نفسه، أو عرضه، أو ماله، أو ما يتعلّق به .
والمراد من المداراتي أن يكون المطلوب فيها المداراة مع العامّة لأجل وحدة كلمة المسلمين، وجلب مودّتهم لأجل تقوية الدين .
والمراد من الإكراهي أن يكون منشأ التقيّة هو الإكراه من ناحية الغير ، وسيأتي(1) البحث في الفرق بين الإكراه والتقيّة فانتظر .
والمراد من الكتماني ; وهو الذي يكون واجباً لا لأجل التحفّظ عن ضرر الغير به، أو المداراة معه، أو إكراه منه ، بل لحفظ المذهب و التحفّظ عن إفشاء سرّ
(1) في ص31 ـ 34.
صفحه 18أهل البيت(عليهم السلام) . وسيأتي(1) تفصيل هذه الأقسام في البحث عن أنواع التقيّة .
الجهة الثانية : تقسيمها بحسب المتّقي ; فإنّه قد يكون من العوامّ ، وقد يكون من رؤساء المذهب ، فقد يكون ارتكاب بعض الأعمال الصادرة من الشخصيّات البارزة الدينيّة موجباً لهتك حرمة المذهب، ووهن عقائد المسلمين .
الجهة الثالثة : التقسيم بحسب المتّقى منه ; فإنّه قد يكون من الكفّار ، وقد يكون من سلاطين العامّة ، كما أنّه يمكن أن يكون سلطاناً شيعيّاً، أو قاضياً كذلك ، وقد يكون من العوامّ ، ويمكن أن يكون من الله سبحانه وتعالى ، وسيأتي المراد منه .
الجهة الرابعة : تقسيمها بحسب المتّقى فيه ، فهو إمّا أن يكون حكماً شرعيّاً ، وإمّا أن يكون موضوعاً خارجيّاً ، والأوّل قد يكون فعلاً محرّماً ، وقد يكون تركاً للواجب; وهو: إمّا أن يكون تركاً لأصل الواجب ، أو يكون تركاً للجزء، أو الشرط ، وقد يكون إتياناً للمانع، أو القاطع .
والتقسيم بحسب الجهات الأربعة من أشعّة أضواء فكر الإمام الخميني (قدس سره) ، على ما جاء في رسالته فيها(2) .
وهاهنا تقسيم جاء في كلمات السيّد الخوئي (قدس سره) ; فإنّه قال : إنّها تنقسم إلى أقسام ثلاثة :
الأوّل : قد يراد بها المعنى العامّ; وهو التحفّظ عمّا يخاف ضرره ولو في الاُمور التكوينيّة ، كما إذا اتّقى من الداء بشرب الدواء .
الثاني : قد يراد بها المعنى الخاصّ ; وهي التقيّة المصطلح عليها ; أعني التقيّة من العامّة .
الثالث : التقيّة من الله سبحانه وتعالى; وهي مساوق لإتيان الواجبات وترك
(1) في ص43 ـ 49.
(2) الرسائل، رسالة في التقيّة 2 : 174 ـ 175.
صفحه 19المحرّمات ، وليس لها حكم شرعيّ ، بل العقل يحكم بوجوبها(1) .
النتيجة :
فالمستفاد من مجموع الكلمات ـ بعد خروج التقيّة في التكوينيّات والتقيّة من الله ـ تبارك وتعالى ـ عن محلّ الكلام ; لعدم شمول تعريفها لهما ـ أنّها تنقسم إلى التقيّة بالمعنى الأخصّ ; وهي التقيّة عن العامّة فيما يرتبط بالمذهب ; وهي المبحوث عنها في الفقه ، وإلى التقيّة بالمعنى الأعمّ ; وهي التقيّة من العامّة وغيرهم لأجل الاضطرار والخوف في التشريعيّات . والأوّل ينقسم إلى الخوفي، والمداراتي والإكراهي، والكتماني .
وجوه الفرق بين التقيّة بالمعنى الأخصّ، والتقيّة بالمعنى الأعمّ
الأوّل : مدرك التقيّة من العامّة ـ مضافاً، إلى العقل في بعض أقسامها ـ هي الروايات الواردة في موردها(2) . بينما أنّ المدرك في التقيّة بالمعنى العامّ منحصر في العقل ; فإنّه يحكم بلزوم رعاية التقيّة في موارد الضرر ، ولهذا يكون تقسيمها إلى الأحكام الخمسة على وفق القاعدة ، فتدبّر .
الثاني : أنّ الملاك في التقيّة من العامّة ، هو الملاك الذي ذكر في الروايات من الخوف، والمداراة، والكتمان، والإكراه ، مع أنّ الملاك في الثاني منحصر في الخوف فقط .
الثالث : أنّ التقيّة بالمعنى الأخصّ قد يكون مطلوباً بالذات ، كالتقيّة الكتمانيّة ،
(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5 : 221 .
(2) وسائل الشيعة 16 : 203 ـ 221 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24ـ27. -
۲۰
صفحه 20وقد يكون مطلوباً بالغير ، كالتقيّة الخوفيّة ، بينما أنّ التقيّة بالمعنى العامّ يكون مطلوباً بالغير دائماً، ومقدّمةً للتحفّظ عن الضرر .
الرابع : يمكن أن يقال بجريان قاعدة التزاحم في التقيّة بالمعنى الأعمّ في جميع مواردها ، وعدم جريان القاعدة في جميع موارد التقيّة بالمعنى الأخصّ ، بل في بعضها على ما سيأتي(1) .
ثمّ اعلم أنّ كلمات الشيخ الأعظم (قدس سره) مضطربة جدّاً ، ولا يستفاد منها أنّه في مقام البحث عن أيّ قسم من هذين القسمين ، لكن يستفاد من بعض كلماته أنّه في مقام البحث عن التقيّة بالمعنى الأخصّ ، كتمثيله بالمداراة مع العامّة والعشرة معهم ، وكذا الفرق الذي ذكره بين الأقسام الخمسة وقال : يكتفى في التقيّة غير الواجبة بالموارد التي ذكرت في الروايات ، ويستفاد من المثال الذي ذكر للتقيّة المباحة والمكروهة أنّه في مقام البحث عن التقيّة بالمعنى الأعم(2) ، فتدبّر في كلماته (قدس سره) .
(1) في ص21 ـ 23.
(2) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 73 ـ 75.
صفحه 21الفصل الثالث :
التقيّة بحسب الحكم التكليفيبناءً على ما سلكنا سابقاً(1) ، يجب البحث عن جريان الأحكام الخمسة التكليفيّة في التقيّة بالمعنى الأعمّ ، والمعنى الأخصّ .
أمّا جريانها في التقيّة بالمعنى الأعمّ، فيتصوّر فيها جريان جميع الأحكام الخمسة : فقد تكون واجبة ، كما إذا كان ترك التقيّة مستلزماً لقتل نفسه ، كما في إظهار الكفر إذا كان تركه مستلزماً لذلك ، وقد تكون محرّمة وهي على نوعين :
النوع الأوّل: حرمة تشريعيّة ; وهي التي كان منشأ الحرمة فيها التشريع ، كما إذا أجبره الحاكم على الاقتداء خلف الفاسق ، فيصلّي الشخص خلفه، لكن مع نيّة التقرّب ، وهذا حرام ; لأنّ الصلاة خلف الفاسق لا يكون مقرّباً ، ونيّة التقرّب بهذا العمل يكون تشريعاً .
والنوع الثاني: الحرمة الذاتيّة ، كما إذا أجبره الحاكم على قتل نفس محترمة ، فلو فعل وقتل تقيّة لكانت حراماً بالحرمة الذاتيّة .
وقد مثّل الشهيد الأوّل (قدس سره) للتقيّة المحرّمة بالتقيّة التي لم يكن في موردها
(1) في ص10.
صفحه 22ضرر عاجلاً، ولا آجلاً(1) .
وأورد عليه السيّد الخوئي(2) بأنّ هذا المورد خارج عن موضوع التقيّة ; فإنّ الملاك في التقيّة بالمعنى العامّ خوف الضرر، فلا تتّصف بالحرمة مع عدم وجود الضرر .
وأمّا التقيّة المستحبّة، فقد مثّل لها الشيخ الأعظم بالمداراة مع العامّة، وجلب مودّتهم، والحضور في مجالسهم (3).
وأورد عليه السيّد الخوئي بنفس الإيراد السابق ، ثمّ قال : إنّ التقيّة كالعدالة ذات مراتب متعدّدة ، والاستحباب إنّما يتصوّر بالنسبة إلى الدرجة الشديدة منها ، ثمّ استشهد بقوله ـ تعالى ـ : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَ ـ ـكُمْ) (4); بمعنى أشدّكم تقيّة(5) .
وفيه: أنّ قياس التقيّة بالعدالة غير صحيح جدّاً ; لأنّ التقيّة إمّا أن تتحقّق في الخارج، وإمّا أن لا تتحقّق ، بخلاف العدالة ; لأنّها يمكن أن تتحقّق في الإنسان على نحو متوسّط ، ويمكن أن يحصل على نحو شديد .
وأمّا ما استشهد به، ففساده واضح ; لأنّ التقيّة المذكورة في الآية هي التقيّة من الله تبارك وتعالى ، ولها مراتب متعدّدة ، بل هي عين العدالة .
وقد قلنا سابقاً(6) بخروج هذا النوع من التقيّة عن محلّ الكلام ، فالقول بوجود المراتب للتقيّة من غير الله يلزم أن تتّقى منه، فاتّق .
(1) القواعد والفوائد 2: 158، قاعدة 208.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 224.
(3) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 75.
(4) سورة الحجرات 49: 13.
(5) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 225.
(6) في ص11 و 19.