pic
pic
  • ۵۱

    المقدّرة الوجود دون إستثناء، بل الإنحلال الثاني أوضح؛ فإنّ الوجوب الثابت في حقّ كلّ مكلّف غير الوجوب الثابت في حقّ المكلّف الآخر، بحيث لو فرض وجود كلّ فرد منهم في الخارج، يترتّب عليه حكم وتكليف غير ما يترتّب على الآخر، فيتكرّر الحكم حسب تعدّد أفراد المكلّفين ويختصّ كل واحد منهم بحكم يخصّ به، فيستتبع إطاعته أو عصيانه على إستقلاله؛ فإنّه يلحظ الموضوع في القضية الحقيقية مفروض الوجود في الرتبة السابقة على الحكم، وهذا معناه رجوع القضية الحقيقية إلى شرطية، مفادها: إذا وجد الموضوع وجد الحكم، فيكون موضوع القضية مقدّمها، ومحمولها تاليها، فيتعدّد الحكم بتعدّد موضوعه في الخارج كما يتعدّد بتعدّد الشرط وجودآ؛ فإنّه إستوت نسبة فعلية الجزاء إلى تمام فعليات الشرط، كما تقول: «النار حارّة» أو تقول: «إن وجدت نار فهي حارّة» أو تقول: «كلّما وجد في الخارج شيء وكان نارآ فهي حارّة.»

    وقد قرّب ذلک المحقّق النائينى(رحمه الله) في الأجود، حيث قال :

    إنّ موضوع الحكم في القضية الحقيقية لا بدّ وأن يكون عنوانآ عامّآ يشار به إلى الموضوعات الخارجية ومأخوذآ في القضية على نحو الفرض والتقدير حتّى يحكم بمعرفيته على ذات المفروض؛ مثلا إذا قلنا «الخمر مسكر»، فموضوع القضية وإن كان هو عنوان الخمر وما هو خمر بالحمل الأوّلي، إلّا أنّه إنّما أخذ في الموضوع للإشارة إلى كلّ ما هو مصداق له في الخارج، فمعناه أنّه إذا فرض شيء في الخارج وصدق عليه أنّه خمر فهو مسكر؛ وهذا معنى قولهم: إنّ كلّ قضية حملية تنحلّ إلى قضية شرطية: مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له. وكذلک الحال في الإنشاءات، فانّ الحاكم بوجوب الحجّ على المستطيع مثلا، لا بدّ وأن يفرض وجود المستطيع ويحكم على هذا الموضوع المفروض وجوده بأنّه يجب عليه الحجّ، فما لم يوجد في الخارج هذا الموضوع وكلّ قيد أخذ

  • ۵۲

    مفروض الوجود معه يستحيل فعلية الحكم، بل هو باق بمرتبته الإنشائية وإذا وجد في الخارج فيخرج المفروض عن حدّ الفرض والتقدير إلى مرتبة الفعلية والتحقيق.[1]

    وتوضيح ذلک كما يستفاد من الفوائد هو: أنّ القضايا الشرعية إنّما تكون على نهج القضايا الحقيقيّة، دون القضايا الخارجيّة، وحينئذ تكون الأحكام الشّرعيّة مشروطةً بموضوعاتها ثبوتآ وإثباتآ.

    أمّا ثبوتآ، فلأنّ القضيّة الحقيقيّة عبارة عن ترتّب حكم أو وصف على عنوان أخذ منظرة لأفراده المقدّر وجودها، فلا يمكن جعل الحكم إلّا بعد فرض الموضوع، فالحكم ثبوتآ مشروط بوجود الموضوع، نظير إشتراط المعلول بوجود علّته.

    وأمّا إثبات والمراد به مرحلة الإبراز وإظهار الجعل فتارة: يكون الإبراز لا بصورة الإشتراط أي لا تكون القضيّة مصدّرة بأداة الشّرط، كما إذا قيل: المستطيع يحجّ، وأخرى: تكون القضيّة مصدّرة بأداة الشّرط، كما إذا قيل: إن إستطعت فحجّ، وعلى أيّ تقدير لايتفاوت الحال، إذ مآل كلّ إلى الآخر، فانّ مآل الشّرط إلى الموضوع ومآل الموضوع إلى الشّرط، والنّتيجة واحدة، وهي: عدم تحقّق الحكم إلّا بعد وجود الموضوع والشّرط. فتحصّل: أنّه لا فرق بين إبراز القضيّة بصورة الشّرطيّة، وبين إبرازها بصورة الحمليّة.[2]

    هذا، وأفاد(رحمه الله) في رسالة «الصلاة في المشكوک» على أن مقتضى جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقية أمران هما: إنحلال الحكم الكبروي الواحد إلى أحكام شخصية خاصة لآحاد وجودات موضوعه، وإشتراط كلّ من تلک


    1 ـ أجود التقريرات :1 127.

    2 ـ فوائد الأصول :1 178 179.

  • ۵۳

    الأحكام بوجود شخص موضوعه. وإليک نصّه :

    ومقتضى لحاظ الموضوع عنوانآ حاكيآ عن أفراده كما هو الشأن في القضايا الحقيقية، أمران :

    الأوّل، إنحلال ذلک الحكم بالنسبة إلى كلّ واحد من تلک الوجودات إلى حكم خاصّ لموضوع كذلک، حسبما يقتضيه مرآتيّة ذلک العنوان لما ينطبق عليه في موضوعيّته لحكمه.

    الثاني، ترتّب كلّ واحد من تلک الخطابات التفصيليّة التي عرفت أنّها البعث أو الزجر المتوجّه إلى المكلّف على شخص موضوعه، وإشتراطه خطابآ وملاكآ بوجوده، بحيث لا يعقل لنفس ذلک الشخص من الخطاب ولا لملاكه تحقّق إلّا بتحقّق شخص موضوعه، وينشأ هذا الإشتراط عن أخذ كلّ واحد ممّا ينطبق على ذلک العنوان مقدّر الوجود، وإيراد حكمه عليه بهذه‌المعونة، فيتضمّن أخذه موضوعآ للحكم بهذا الوجه لهذه الشرطيّة وتكون في قوّة الشرطيّة الصريحة.

    وإلى هذا يرجع ما ذكره المنطقيّون من إنحلال القضايا الحقيقيّة إلى شرطيّة مقدّمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول.[1]

    ثمّ، إنّ هناک عدة فوارق بين القضية الحقيقية والخارجية، يمكن تسجيلها كما يلي :

    منها، ما أشار اليه السيّد المحقّق الصدر(رحمه الله) من أنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقية إذا إنتفى ينتفي الحكم؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه، خلافآ لباب القضايا الخارجية، فإنّ الأوصاف فيها ليست شروطآ، وإنّما هي أمور يتصدّى المولى لإحرازها فتدعوه إلى جعل الحكم؛[2] وذلک لأنّ الموضوع في


    1 ـ رسالة الصلاة في المشكوک (للنائيني): 231.

    2 ـ دروس في علم الأصول :2 30.

  • ۵۴

    القضية الخارجية بعد تحقّقه في الخارج يجرى عليه الحكم من ناحية المولى بخلاف القضية الحقيقية، فإنّ الموضوع فيها قضية كلية شأنية ولا يحتاج أن يكون موجودآ فعلا في الخارج. وبعبارة أخرى، إنّ القضية الحقيقيّة لا تستدعي وجود الموضوع في الخارج، وإذا كان موجودآ في الخارج فالحكم فيها لا يكون مقصورآ على الأفراد الخارجيّة، بل يتناولها والأفراد المقدّرة الوجود؛ بخلاف الخارجيّة فإنّها تستدعي وجود الموضوع في الخارج، فالحكم فيها مقصور على الأفراد الخارجيّة. ومن هنا، يتبيّن أنّ القضايا الخارجيّة لا تصلح لأن تكون كبرى في القياس المنطقي؛ فإنّ كبرى القياس المنطقي لا بدّ وأن تكون صالحة لأن يستنتج عنها ثبوت الحكم الثابت في الكبرى للمجهول التصديقي، ومن الواضح أنّ ذلک يتوقّف على أن يكون المناط الموجب لثبوت الحكم في الكبرى متوفرآ في المجهول التصديقي حتّى يمكن إستنتاج ثبوت الحكم للمجهول التصديقي، بينما أنّ إتّحاد الحكم في القضايا الخارجيّة لا يعبّر عن وحدة المناط. هذا، مضافآ إلى أنّ القضيّة الخارجيّة الكليّة لا تكون إلّا بعد إحراز تمام الأفراد المجعول عليها الحكم، فلا يفترض في موردها الجهل بحال فرد من أفراد القضيّة الخارجيّة الكليّة، ولو إتّفق الجهل بحال فرد فإنّه لا يصحّ جعل الحكم على تمام الأفراد، وعليه لا يكون هناک معنى لتشكيل قياس لغرض إستكشاف حال فرد؛ فإنّ تمام الأفراد لابدّ وأن تكون معلومة حين جعل الحكم على موضوع كلّي.[1]

    ومنها، ما قاله السيّد الشهيد الصدر(رحمه الله) أيضآ من أنّ الموضوع في القضية الحقيقية وصف كلّيّ دائمآ يفترض وجوده فيرتّب عليه الحكم، وأمّا الموضوع في القضية الخارجية فهو الذوات الخارجية، ومن هنا إستحال التقدير والإفتراض


    1 ـ المعجم الأصولى :2 384.

  • ۵۵

    فيها، بل هو أمر محقَّق الوجود،[1] فلا يمكننا أن نعمّم الحكم لحالات أخرى، بخلاف ما إذا كان الموضوع مأخوذآ بنحو القضية الحقيقية فنستطيع أن نعمّم الحكم لمختلف الأزمان والأحوال.

    ومنها، ما ذكره بعض المعلّقين على الدروس، من أنّ المولى في القضايا الخارجية هو الذي يتصدّى لتشخيص توفّر الوصف الدخيل في ملاک حكمه أو عدم توفّر ذلک في كلّ فردٍ من الأفراد المحقّقة الخارجيّة، وهذا بخلاف القضيّة الحقيقيّة حيث إنّ المولى لا يتصدّى فيها لتشخيص ذلک في الأفراد، بل يجعل الوصفَ الدخيل في ملاک الحكم جزءً لموضوع الحكم على نحو مقدّر الوجود، ويلقي عهدة التشخيص على عاتق المكلّف.[2] فلو أخطأ المكلّف في التشخيص وتخيّل إنتفاء الوصف عن فرد من الأفراد مثلا ولم يمتثل فيه الحكم، كان هو المسئول عن تبعات ذلک إن كانت له تبعات من تدارکٍ أو قضاءٍ أو نحو ذلک.

    ومنها، ما صرّح به المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ المؤثّر في القضية الخارجية من حيث الموضوع والملاک ليس الّا علم الآمر، أصاب أو أخطأ؛ مثلا إذا علم الآمر أنّ في سقي الماء مصلحةً وأنّ العبد قادر عليه، فلا محالة يحكم ويلزم عبده بالسقي، سواء كان في علمه مصيبآ أو مخطئآ، فإنّ المؤثّر في الحكم هو العلم لا الوجود الخارجي، وأمّا المؤثّر في الحكم في القضية الحقيقة من جهة الموضوع فهو وجود الموضوع خارجآ، علم به الآمر أو لم يعلم؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم إنّما أنشئ على تقدير وجود الموضوع فيدور مدار وجوده ولا دخل فيه لعلم الآمر أصلا.[3]


    1 ـ نفس المصدر.

    2 ـ دروس في علم الأصول؛ الحلقة الثالثة (طبع مجمع الفكر): 88.

    3 ـ أجود التقريرات :1 128.

  • ۵۶

    وبكلمة أخرى، كما يستفاد من الفوائد: أنّ جميع العناوين في القضيّة الخارجيّة، تكون من علل التشريع، وليس لها موضوع يترتّب عليه الحكم سوى الفرد المعين، وما عداه لا دخل له في الحكم بوجوده العيني، وانّما يكون له دخل بوجوده العلمي. ومن هنا، تسالم الفقهاء على أنّه لو أذن لزيد في أكل الطعام أو دخول الدّار لمكان علمه بأنّ زيدآ صديق له، جاز لزيد أكل الطعام أو دخول الدّار، وإن لم يكن في الواقع صديقآ له، بل كان عدوّآ له، لأنّ الإذن قد تعلّق بشخص زيد ولا أثر لعلمه بصداقته في جواز الدّخول، وإنّما يكون العلم له دخل في نفس إذنه. وهذا بخلاف ما إذا أذن لعنوان صديقه وقال: «من كان صديقي فليدخل»، أو قيّد الحكم بالصّداقة وقال: «يا زيد أدخل الدّار إن كنت صديقي»، فإنّه في مثل هذا لا يجوز لزيد دخول الدّار إذا لم يكن صديقآ وإن علم الآذن بأنّه صديق، فإنّه ليس المدار على علم الآذن، بل المدار على واقع الصّداقة، من غير فرق بين أخذ الصّداقة عنوانآ أو قيدآ من الجهة الّتي نحن فيها.[1]

    ومنها، ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) أيضآ وهو أنّه لو أخذ الشّيء على جهة العنوانيّة أوجب تعدّي الحكم عن مورده إلى كلّ ما يكون العنوان منطبقآ عليه، فلو قال مخاطبآ لزيد: «يا صديقي أدخل الدّار» جاز لعمرو أيضآ دخول الدّار إذا كان صديقآ، إلّا إذا علم مدخليّة خصوصيّة زيد فيخرج العنوان عن كونه تمام الموضوع، وهذا بخلاف ما إذا كان قيدآ، فإنّه لا يجوز لغير زيد دخول الدّار وإن كان مشاركآ له في القيد.[2]

    هذا، والفرق بينهما وبين القضية الطبيعية واضح جدّآ، فإنّ الثانية تحكم على الماهية بما هي هي من دون نظر إلى الخارج كما مرّ.


    1 ـ فوائد الاصول :1 279.

    2 ـ نفس المصدر.

  • ۵۷

    المطلب الثالث: رؤية الإمام الخميني (قدس سرّه) في تقسيم القضايا

    قد تقدّم آنفآ، أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) يرى أنّ المناط في القضايا الحقيقية هو تعلّق الحكم بنفس الطبيعة، وفي الخارجية تعلّقه بالأفراد الخارجيّة، وأنّ الخطابات الشرعية صدرت على نهج القضايا الحقيقيّة، فتنحلّ إلى قضيّة شرطيّة، مقدّمها وجود الموضوع، وتاليها عنوان المحمول، ويستلزمها إنحلال الحكم بتعدّد ما لموضوعه من الأفراد، وترتّب الحكم في كلّ مورد على حياله، فيكون لكلّ واحد من أشخاص موضوعاتها حكم يخصّه.

    ومن هنا يطرح سؤال، وهو: ما موقف الإمام الخميني (قدس سرّه) تجاه هذه النظرية؟

    والذي يبدو لنا أنّ هذه النظرية قد تعرّضت لتعديلات وقد إعتُرض عليها حيث قد جاءالإمام(قدس سرّه) بتقريب آخر في تحليل القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة، فيمكن أن نستخلصه في ما يلي :

    إنّه لو إفترضنا أنّ التكاليف الشرعيّة على نهج القضايا الحقيقيّة، فالملاک الذي أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) في الفرق بين القضيّتين غير سديد؛ بل المناط في الفرق بينهم بعد أن كان الحكم في كلّ واحدٍ منهما ثابتآ ومتعلّقآ بالعنوان الكلي إبتداءً هو أنّ العنوان في الخارجيّة مقيّد بقيد لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة محقّقآ، وليس الحكم فيها متعلّقآ بذات الأفراد وأشخاصها الخارجيّة مباشرةً وبلا توسيط عنوان. وأمّا في القضايا الحقيقيّة فالموضوع فيها ذو قابلية يصلح أن ينطبق على الأفراد الموجودين حسب مرور الزمان، كقولک: «كلّ نار حارّة»فإنّ لفظة «النار» تدلّ على نفس الطبيعة القابلة للصدق على الأفراد، لا بمعنى كون الطبيعة حاكية عنها، بل لا تدلّ إلّا على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على الأفراد، ومتّحدة معها في الخارج؛ فإنّ الحكم فيها بما له بقاء في عالم الإعتبار محمول على العنوان الذي ينطبق على مصاديقه بالتدريج وما هو الموجود في الحال والمتصرّم

  • ۵۸

    والآتي. وعليه تقييد العنوان في الحقيقية بفرض وجود الموضوع تكلّفٌ لا يحتاج إليه، فإنّه ليس من فرض وجود الموضوع في ذهن المتكلّم شيء، بل ينحصر الصدق في ظرف الوجود الخارجي من غير أن يكون الوجود قيدآ، فيكفي تعلّق الحكم بنفس العنوان القابل للصدق على الأفراد عبر الزمان؛ فهما يشتركان في أنّ الحكم على العنوان لا على الخارج ويفترقان في أنّ العنوان في القضية الخارجية له ضيق ذاتي لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة فعلا.

    وتشتركان أيضآ في أنّ المقسم لهما القضية الكلّية البتّية[1] المعتبرة في العلوم، لاالشرطيّة، فليس مفاد القضيّة الحقيقيّة مثل «كلّ نار حارّة»، كلّما لو وجد كان نارآ، بل إنّما ذكروا ذلک في مقام التقريب إلى أذهان المتعلّمين، وإلّا فهو في غاية الوضوح من الفساد،[2] بل يكون الفرق بينهما إنّما هو في أنّ الموضوع في الحقيقيّة جُعِل بنحوٍ لا تنحصر أفراده في الأفراد الموجودة بالفعل فقط، بل الأعمّ من الموجود أو من سيوجد؛ وأنّ المراد: كلّما لو وجد فرد منه ولو بعد أزمنة كثيرة ينطبق عليه ذلک‌الموضوع، ويترتّب عليه الحكم من غير أن تكون القضية متضمّنة للشرط؛ مثل (للهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)،[3] فمتى تحقّق عنوان المستطيع إلى يوم القيامة، ووجد فرد منه، وصدق عليه عنوانه، يترتّب عليه وجوب الحجّ، فحيث إنّ الموضوع فيها كذلک قالوا: إنّها في قوّة القضيّة الشرطيّة، لا إنّها قضيّة شرطيّة حقيقةً، وهذا بخلاف القضايا الخارجيّة، فإنّ العنوان المأخوذ في الخارجية، مقصور على وجه لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة في الحال أو في الزمان السابق، أو مجموعهما؛ وواضح أنّ مجرّد


    1 ـ ينقسم القضية إلى بتّي وغير بتّي. والأول ما كان لموضوعه أفراد محققّة يصدق عليها بعنوانه، كقولنا: «الإنسانكاتب» و«الكاتب متحرّک الأصابع» والثاني ما كان لموضوعه أفراد مقدرة غير محققّة، كقولنا: «المعدوم المطلقلا يخبر عنه" وقولنا: "اجتماع النقيضين محال» (أنظر: نهاية الحكمة: 186)

    2 ـ تنقيح الأصول :4 659.

    3 ـ سورة آل عمران: 97.

  • ۵۹

    إنطباقه على خصوص الموجودين في الخارج لا يصيّرها جزئيآ وشخصيآ، نظير الكلّي المنحصر نوعه في فرد. وعليه قسّموا القضايا البتّية إلى الحقيقيّة والخارجيّة، وجعلوا الشرطيّة في مقابل البتّية، فلا تنحلّ القضايا الحقيقيّة إلى الشرطيّة واقعآ، وليس ذلک مقصودآ ومرادآ للمحقّقين من المنطقيّين أيضآ.[1]

    هذا، حصيلة كلامه، ونشير هنا إلى بعض عباراته شاهدآ على ذلک :

    يقول السيّد الإمام الخميني (قدس سرّه) في أنوار الهداية :

    لا ينحلّ القضيّة الحقيقيّة إلى شرطيّة؛ ضرورة أنّ القضايا الحقيقيّة لا تنحلّ إلى قضايا شرطيّة حقيقةً، وإن أصرّ عليه المحقّق النائيني(رحمه الله) في كثير من المواضع زعمآ منه أنّ ما اشتهر أنّ في القضايا الحقيقيّة يكون الحكم على الأفراد المحقّقة أو المقدّرة الوجود، في مقابل القضايا الخارجيّة التي يكون الحكم ]فيها[ مقصورآ على الأفراد الخارجيّة أنّ المقصود منه أنّ تلک القضايا تنحلّ إلى الشرطيّات حقيقةً. نعم، يوهم ذلک بعض عبائر المنطقيين؛ لكنّ الأمر ليس كذلک قطعآ؛ فإنّ القضايا الحقيقيّة قضايا بتّية كالقضايا الخارجيّة، ولا إفتراق بينهما من هذه الجهة، وإنّما أُريد من كون الحكم فيها على الأفراد المحقَّقة أو المقدَّرة دفعُ توهُّم قصر الحكم على الأفراد الخارجيّة، وتفرقة بين القضيّتين، وإلّا فالقضايا الحقيقيّة يكون الحكم فيها على عنوان الموضوع، بحيث يكون قابلا للإنطباق على الأفراد، أعمّ من الموجود أو سيوجد؛ ف «كلّ نار حارّة» إخبار جزميّ وقضيّة بتّية يحكم فيها على كلّ فرد من أفراد النار، وليس في الإخبار إشتراط أصلا، لكن لا تكون النار نارآ ولا حارّة إلّابعد الوجود الخارجي، وهذا غير الإشتراط، ولا يكون مربوطآ بمفاد القضيّة. ولو كانت القضايا الحقيقيّة مشروطة حقيقةً، لزم أن يكن إثبات لوازم الماهيات لها بنحو القضية الحقيقيّة مشروطآ بوجودها الخارجيّ، مع أنّها


    1 ـ تنقيح الأصول :3 343.

  • ۶۰

    لازمة لها من حيث هي، فقولنا: «كلّ مثلث فإنّ زواياه الثلاث مساوية لقائمتين» و«كلّ أربعة زوج» قضيّة حقيقيّة جزمآ، ولو كانت مشروطةً لزم أن يكون إثبات التساوي والزوجيّة لهما مشروطآ بالوجود الخارجيّ، مع أنّ اللوازم ثابتة لذواتها من غير إشتراط أصلا. نعم، لا تكون الماهيّة ماهيّةً ولا اللازم لازمآ إلّا بالوجود بنحو القضيّة الحينيّة، لا المشروطة؛ لأنّ الإشتراط معناه دخالة الشرط في ثبوت الحكم، وهو خلاف الواقع في لوازم الماهيّات.[1]

    ويذكر (قدس سرّه) أيضآ في التهذيب والمناهج بشأن القضيتين ما هذا لفظه :

    إنّ هذا التقسيم للقضايا الكلّية، فإنّه قد يكون الحكم في القضايا الكلّية على الأفراد الموجودة للعنوان، بحيث يختصّ الحكم على ما وجد فقط، من غير أن يشمل الموجودين في الماضي والمستقبل، وذلک بأن يتقيّد مدخول أداة العموم بحيث لا ينطبق إلّا عليها، مثل «كلّ عالم موجود في الحال كذا» أو «كلّ من في هذا العسكر كذا» وأمّا القضية الحقيقية فهي ما يكون الحكم فيها على أفراد الطبيعة القابلة للصدق على الموجود في الحال وغيره، مثل «كلّ نار حارّة» فلفظة «نار» تدلّ على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على كلّ فرد، بمعنى دلالتها على الطبيعة القابلة للصدق على الأفراد الموجودة، وما سيوجد في ظرف وجوده... وإضافة الكلّ إلى الطبيعة تدلّ على تعلّق الإستغراق بما يتلوه، ولمّا لم تتقيّد بما يجعلها منحصرة الإنطباق على الأفراد المحقّقة فلا محالة تكون منطبقةً عليها وعلى غيرها، كلٌّ في موطنه... فلا تكون القضية الحقيقية إخبارآ عن الأفراد المعدومة، بل إخبار عن أفراد الطبيعة بلا قيد، وهي لا تصدق إلّا على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها... وبما ذكرنا يظهر ضعف ما أفاده بعض الأعاظم في الفرق بين الحقيقية والخارجية من القضايا، حيث حكم في عدّة مواضع من كلامه


    1 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 143 145.

۲۷,۷۶۵ الزيارة