-
۲۱
قبلة لمن كان في الحرم، والحرم قبلة لمن خرج عنه، ولكن لا ترديد في أنّ البيت قبلة لمن كان في المسجد.
وكيف كان، فالظاهر عدم الفرق بين الاستقبال والطواف من هذه الجهة، والشاهد على ذلك أنّه لو أزيل البناء تصحّ الصلاة إلى الفضاء، ولا تصحّ إلى البناء الزايل، وأيضاً يجوز الطواف حول الفضاء الموجود ولايسقط وجوبه في هذا الفرض.
نعم، هذه التوسعة إنّما هي في الطواف، ولا تجري في السعي، فلا يتوهّم أنّه كما يجوز الطواف فوق الكعبة يجوز السعي أيضاً من الفوق، فإنّ السعي لابدّ وأن يكون بين الجبلين لا فوقهما، ولا دليل على أنّ الفوق فيه ملحق بالبين، إلاّ أن يقال: إنّ البين ليس مقابلاً للفوق، بل المراد كون السعي في هذا الحدّ بدواً وختماً، وهو كما ترى.
إن قلت: ورد في بعض الروايات أنّ الملائكة ينزلون إلى الأرض ويطوفون حول البيت، أليس هذا شاهداً على أنّ الملاك في الطواف نفس البيت وإلاّ لما احتاجوا إلى النزول؟
قلت: كلاّ، لا يثبت بهذا ذاك، بل يمكن أن يكون نزولهم
-
۲۲
لاشتراكهم مع المؤمنين وجعل أنفسهم في صفّهم هذا أوّلاً، وثانياً لا ينكر رجحان الطواف بنفس البيت من باب أنّ الأقرب إليه يكون أكثر ثواباً، وأيضاً من جهة أنّ الموجود والمحسوس هو الطواف حول هذا البيت، وربما يكون هذا موجباً لكون القرب إليه أكثر ثواباً.
إن قلت: إذا كان البيت ممتدّاً حتّى من جهة الطواف، فما معنى استلام الحجر أو الركن اليماني؟!
قلت: يمكن استلام الحجر بالإشارة من محاذيه، وكذا الحال في الركن اليماني، وكيف كان، فنحن نلتزم بصحّة الطواف من الفوق، وهذه الاُمور لا توجب رفع اليد عنه.
إن قلت: إنّ العرف يساعدنا في ذلك بالنسبة إلى الاستقبال، لكنّه لا يوافقنا في الطواف، بمعنى أنّ الاستقبال إلى الفضاء لا نقص فيه عند العرف بل هو مقبول عندهم، بخلاف الطواف فيه، إذ لا يعدّ عنده طوافاً.
قلت أوّلاً: نحن لا نوافق في ذلك، بل ندّعي أنّ العرف لا يفرق بينهما من هذه الجهة فيصدق الطواف على الطائف من الفوق عرفاً، والظاهر عدم وجود مسامحة عرفية في هذا
-
۲۳
الصدق، وإن كان الصدق ـ ولو بالمسامحة العرفية ـ كافياً في حكم العقل بامتثال الأمر، ألاترى أنّه إذا أمر المولى بإتيان الماء فأتاه العبد بالمائع المسمّى عند العرف ماءً مسامحةً وإن لم يكن بالدقّة العقلية ماءً; تحقّق الامتثال وكفى.
ثانياً: بعد التسليم نقول: إنّ الشارع قد خالف العرف في هذه الجهة فجعل البيت فوقاً وتحتاً بيتاً يجوز الصلاة والطواف نحوه مطلقاً دون أن يكون للبناء مدخلية فيه عند الشارع، نعم الظاهر انعقاد الإجماع بين الفريقين على عدم جواز الطواف خارج المسجد بخلاف الاستقبال، فالفرق بينهما من هذه الجهة ممّا لاينكر، بمعنى أنّه يجب أن يكون الطواف داخلاً في المسجد، إمّا في ما بين البيت والمقام كما ذهب إليه المشهور، أو في المسجد مطلقاً، وقد صرّح العامّة بأنّه كلّما اتّسع المسجد اتّسع المطاف، ولكن رعاية الحدّ وعدمها أمر آخر غير ما نحن فيه.
والنتيجة التي يمكن الخروج بها أنّه مع قطع النظر عن الراوية المرسلة الدالّة بالإطلاق على صحّة الطواف والصلاة حول الفضاء وتحت الأرض، يمكن أن يقال: إنّ المستفاد من
-
۲۴
أدلّة القبلة والطواف ووحدة التعبير في كليهما ـ حيث جعل الملاك في كلّ واحد منهما البيت ـ أنّه كما يكون الفوق صالحاً للاستقبال يكون صالحاً للطواف أيضاً، ولولا هذه الرواية لأمكن أن يقال بأنّ هذا أمر عرفي لا ريب فيه، ومراجعة الأسئلة الواردة في الروايات تشعر بذلك، فإنّ الناس كانوا يصلّون ـ ارتكازاً ـ فوق جبل أبي قبيس، فهم وإن سألوا بعد العمل إلاّ أنّ عملهم هذا كان مطابقاً لارتكازهم.
هذا كلّه، مضافاً إلى عموم التنزيل المستفاد من قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): «الطواف بالبيت صلاة»، فإنّه دالّ على أنّه كما يمتدّ البيت في الصلاة علوّاً وسفلاً فكذلك في الطواف.
والدليل على عموم التنزيل أنّه قد استثنى في الرواية مورداً واحداً قال: «الطواف بالبيت صلاة إلاّ أنّ الله تعالى أحلَّ فيه النطق»، وهذه الرواية وإن كانت غير مسندة من طرقنا سوى ما عن عوالي اللئالي،(1) إلاّ أنّ جمعاً من كبار الفقهاء قد استند إليها واستدلّ بها:
1. عوالي اللئالي2: 167.
-
۲۵
فقد استدلّ الشيخ(1) بها، كما استدلّ العلاّمة على وجوب القيام في الطواف وقال: «قد ثبت وجوب القيام في الصلاة فكذا فيه»(2)، وكذا على شرطية الستر فقال: «ستر العورة شرط في الطواف»(3).
واستدلّ بها الشهيد الثاني، مصرّحاً بالإطلاق حيث قال: «مستند ذلك إطلاق قوله (صلى الله عليه وآله) الطواف بالبيت صلاة خرج منه ما أجمع على عدم مشاركته لها فيه فيبقى الباقي»(4).
وقال المحقّق الأردبيلي: «الطواف بالبيت صلاة فيشترط فيه ما يشترط فيها إلاّ ما أخرجه الدليل»(5).
وذهب السيّد الطباطبائي إلى أنّ التشبيه يقتضي الشركة في جميع الأحكام، ومنها الطهارة عن النجاسة(6).
نعم خالفهم سيّد المدارك، حيث ذهب إلى أنّ سند الرواية
1. الخلاف: ج2، ص323.
2. مختلف الشيعة: ج4، ص185.
3. تذكرة الفقهاء: 8 / 85.
4. مسالك الافهام: 2 / 328 و 339.
5. مجمع الفائدة والبرهان: 1 / 65.
6. رياض المسائل: 6 / 523.
-
۲۶
قاصر ومتنها مجمل(1).
وكيف كان لا ريب في استناد المشهور إلى الرواية، وعليه ينجبر ضعفها، فما ورد من السيّد الخوئي من أنّه لم يعلم استناد المشهور إليه(2) غير تامّ، وقد صرّح السيّد الحكيم بالانجبار(3).
هذا، وقد ورد من طرق الإمامية عن معاوية بن عمّار عن الصادق (عليه السلام): «ولا بأس أن تقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلاّ الطواف بالبيت فإنّ فيه صلاة»(4).
وقد استشعر صاحب الجواهر من هذا الخبر أنّ أصل المرسل المشهور عن النبي هكذا: في الطواف بالبيت صلاة، وقد أسقط من أوّله لفظ (في) فظنّ أنّه من التشبيه.
وفي الاستشعار إشكال بل منع، لأنّه في بعض الروايات قد استثنى منه النطق، وقال: «إلاّ أنّه أحلّ فيه النطق»، ولعلّه
1. مدارك الأحكام: ج1 / 12.
2. كتاب الحج: ج4.
3. دليل الناسك: 245.
4. وسائل الشيعة: أبواب الوضوء، باب 5، ح1.
-
۲۷
من هذه الجهة استدلّ هو نفسه بهذه الرواية في مواضع عديدة من كتابه(1) من دون كلمة «في» فتدبّر.
هذا كلّه مضافاً إلى أنّه لو كان الطواف مرتفعاً عن الكعبة غير جائز لصار هذا أيضاً حدّاً من جهة الارتفاع، ولكان اللاّزم على الشارع ذكره كما ذكر الحدّ في جهة المساحة ومحيط الدائرة الأرضية، فمن عدم البيان بالنسبة إلى هذه الجهة نستكشف صحّة العمل.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ عدم البيان إنّما كان من جهة عدم الموضوع الخارجي في ذلك الزمان، وهو كما ترى.
وممّا ذكرنا يظهر ضعف ما حكي عن الشافعي فإنّه قال: «فإن جعل سقف المسجد أعلى لم يجز الطواف على سطحه»، ويستفاد من صاحب الجواهر مخالفته له في ذلك، وقال: «مقتضاه كما عن التذكرة أنّه لو انهدمت الكعبة ـ والعياذ بالله ـ لم يصحّ الطواف حول عرصتها، وهو بعيد بل باطل(2).
والظاهر ذهاب صاحب الجواهر أيضاً إلى صحّة الطواف
1. جواهر الكلام: ج2 ، ص8؛ ج18، ص58؛ ج19، ص270؛ ج35، ص360.
2. جواهر الكلام 19: 298.
-
۲۸
من السطح وإن كان أعلى من البيت.
والذي يبدو أنّ أكثر العامّة قائلون بصحّة الطواف فيما إذا كان مرتفعاً عن البيت، فقد قال النووي: «قالوا: ويجوز (أي الطواف) على سطوح المسجد إذا كان البيت أرفع بناءً من المسجد كما هو اليوم، قال الرافعي: فإن جعل سقف المسجد أعلى من سطح الكعبة فقد ذكر صاحب العدّة: أنّه لايجوز الطواف على سطح المسجد، وأنكره عليه الرافعي وقال: لو صحّ قوله لزم منه أن يقال: لو انهدمت الكعبة ـ والعياذ بالله ـ لم يصح الطواف حول عرصتها وهو بعيد، وهذا الذي قاله الرافعي هو الصواب، وقد جزم القاضي حسين في تعليقه: بأنّه لو طاف على سطح المسجد صحّ وإن ارتفع عن محاذاة الكعبة، ثمّ أضاف قاعدةً كليّةً وهي: أنّه لو وسع المسجد اتّسع المطاف، وقال: اتّفق أصحابنا على ذلك»(1).
وقال الزحيلي: «ويصحّ على سطح المسجد وإن كان سقف المسجد أعلى من البيت»(2).
1. المجموع في شرح المهذب، الجزء الثامن، ص43.
2. الفقه الإسلامي وأدلّته، الجزء الثالث، ص159.
-
۲۹
فروع ملحقة:
الفرع الأوّل: حكم الارتفاع القليل
ثمّ إنّه مع قطع النظر عن التوسعة وبنائنا على عدمها ولزوم الاقتصار على البيت يمكن أن يقال: الظاهر عند العرف أنّ الارتفاع القليل بمقدار متر أو مترين لا يخرجه عن الطواف حول البيت، فيصحّ الطواف انطلاقاً من الصدق العرفي.
الفرع الثاني: شمول الحكم لحال الاضطرار وعدمه
ثمّ إنّه يظهر أيضاً أنّ صحّة الطواف فيما إذا كان أعلى من الكعبة ليست مختصّةً بحال الاضطرار، بل من يقول بعدم وجود حدّ للطائف يصحّ له القول بذلك مطلقاً والله العالم.
الفرع الثالث: الاستنابة ومشروعيّتها
الظاهر أنّه لا تصل النوبة إلى الاستنابة إلاّ على قول من يذهب إلى وجود حدّ للمطاف، إذ يلزمه طبعاً الافتاء بلزوم الاستنابة وعدم صحّة الطواف من الطابق الأوّل، لا من جهة كونه أعلى من البيت بل من جهة كونه خارجاً عن حدّ المطاف.
-
۳۰
ويأتي هنا بحث وهو أنّه على القول بوجود الحدّ إذا أمكنت الاستنابة وجبت عليه، وأمّا إذا لم تمكن وعلم الحاج ـ ابتداءً قبل الشروع في الإحرام ـ أنّه غير قادر على الطواف لا بنفسه ولا بالاستنابة، فهل يكون إحرامه صحيحاً أم لا؟
يمكن أن يقال بعدم وجوب الحجّ في هذا الفرض; إمّا من جهة أنّ عدم القدرة على الجزء أو الشرط موجب لعدم القدرة على المركب والمشروط، فيسقط وجوب الحجّ لأجل عدم توجّه التكليف والخطاب نحو المخاطب، بناءً على ما أسّسه المحقّق النائيني من أنّ شرطية القدرة تستفاد من اقتضاء الخطاب لا من حكم العقل، أو أنّ عدم القدرة موجب لكون توجّه التكليف إليه قبيحاً على مبنى المشهور القاضي بحكم العقل بقبح تكليف العاجز، كلّ ذلك بناءً على شرطية القدرة في التكليف; إمّا من اقتضاء نفس الخطاب أو من حكم العقل.
وأمّا بناءً على عدم شرطية القدرة فيه والقول بأنّ الخطاب يشمل العاجز كما أنّه يشمل القادر، غايته أنّ