pic
pic
  • ۵۱

    بهذه الأدلة بل لا بد من إثبات المالية أولاً ليصدق عنوان الغصب فيما لوتصرف الآخر فيه من غير إذن مالكه فيقال هذا غصب وهذا حرام.

    وللغصب تعريفات عديدة عند الفقهاء أحدها هو (الاستيلاء على مال الغير عدواناً)(1) وفي مورد البحث لا نعلم بأن حقّ التأليف هل هومال للمؤلف أولا يعد مالاً له.

    الإشكال الثاني: أنّ عنوان السرقات الأدبية وإن أصبح تعبيراً دارجاً في هذه الأيام فمن ألّف كتاباً أخذه من كتاب الآخرين قالوا: إنه قام بسرقة أدبية ومن طبع كتاباً للآخر واستنسخه لصالحه ولمصلحته الشخصية كان عمله مصداقاً من مصاديق السرقة الأدبية، إلّا أنّ المفهوم الفقهي للسرقة غير صادق عليه، فإن السرقة بمفهومها الفقهي أحد المحرمات ويجري عليها حد السارق بالشروط الخاصة المذكورة في محلها لكنها لا تصدق على السرقة الأدبية فلوأطلقها عليها أحدهم كان ذلك من باب المجاز والمسامحة، فهذه التعبيرات يجب أن لا توقعنا في الخطأ حيث إنهم يطلقون عنوان السرقة على تصرف أحدهم في حقّ التأليف من دون إذن صاحبه ويقولون بأن السرقة لا شك في أنها من الذنوب الكبيرة لكنها


    1. راجع جامع المقاصد 6: 208، رياض المسائل 14: 5.

  • ۵۲

    وإن سلّمنا بحرمة عدم مراعاة حقّ التأليف فأنى لنا إثبات أن هذا العمل من الذنوب الكبيرة، فمجرد التعبير بالسرقة يجب أن لا يوقعنا في الخطأ فنحكم بحرمتها بل صدق عنوان السرقة والغصب فيما نحن فيه مشكوك فلا يمكن التمسك بهذه الأدلة.

    أهم ما يمكن أن يستدل به في المقام الأول هوالعقل ويمكن تقريره بوجوه متعددة:

    الوجه الأول: أنّ من طبع كتاباً لآخر من غير إستئذانٍ منه ونشره كان ذلك ظلماً وقبح الظلم من الأحكام العقلية الأولية ولا علاقة له بالسّرقة والغصب، فمن نشر كتاب شخص بدون إذنه أوباعه أونقل من كتابه موضوعاً علمياً أوأخذ اسماً خاصاً لشركة غذائية اشتهرت بين الناس وجعله اسماً على منتجاته للاستفادة من شهرته فأن كل ذلك من مصاديق الظلم والعرف والعقلاء أنفسهم يشهدون بكونها من مصاديق الظلم والعقل يحكم بقبح الظلم وكلما حكم به العقل حكم به الشرع، فيجب أن يحكم الشارع أيضاً بقبحه.

    وهذا الوجه العقلي لا يرد عليه إشكال ومحذور حسب اعتقادن، وعليه فمن طبع ونشر مؤلفاً لغيره بدون إذن منه فإنه ظلم ولا يعتبر في باب الظلم أن يكون الشيء مالاً لشخص لنشترط إحراز ماليته أول، حتى

  • ۵۳

    أن في تحقق الظلم لا يلزم أن يكون الشيء ملكاً لغيره لنعتبر إثبات الملكية أول، بل يكفي في باب الظلم أن يكون الشيء حقاً لغيره ليكون عدم مراعاته ظلماً لصاحبه، غاية الأمر أنّا نعلم تارةً بأنّ هذا حقّ وبعد أن اتّضح كونه حقاً حكمنا بأن التعدي عليه أوعدم مراعاته ظلمٌ والظلم قبيح، وتارةً بحكم العرف بأنك لوفعلت هذا الفعل كان فعلك ظلماً ونحن من هذا الطريق نستكشف وجود الحق هن، ففي كثير من الاستدلالات السابقة كنّا نواجه هذا الإشكال القائم على وجوب إحراز كون الشيء حقاً ففي الغصب كان اللازم علينا أولاً إثبات مالية الشيء لتشمله أدلة الغصب، أما في التمسك بدليل الظلم يكفي أن نقول بأن العرف يحكم بأن عدم مراعاة هذا الأمر ظلم مما يستكشف من ذلك أنه حقّ والظلم قبيح عقلاً فالفعل يحكم هنا بلزوم مراعاة حقّ التأليف وحق الاختصاص، ولا يرد على هذا الوجه للدليل العقلي أي إشكال من الإشكالات الواردة على الأدلة السابقة على ما أعتقده.

    الوجه الثاني: للدليل العقلي لا ربط له بالظلم، تقريره أنّ العقل يحكم بأولوية كل إنسان بعمله فمن أنتج مادة غذائية ومن بنى بناءً وعمارةً سكنية ومن بنى محلاً صغيراً فإن العقل يرى أنّ هذا الصانع أولى بهذه الأشياء من سائر أفراد البشر فكما يقرّ العقل بالأولوية في أعماله فكذا

  • ۵۴

    يقر بالأولوية في نتائج هذه الأعمال بمعنى أن من يؤلّف كتاباً كان الأثر المترتب عليه أنه يمكنه طبع هذا الكتاب في ألف نسخة لتحصيل الأرباح منها فإن العقل يحكم بأنّ صاحب هذا الكتاب أولى به من غيره والعقل يدرك هذه الأولوية.

    فإذا قبلن بأن العقل كما يرى الإنسان أولى بسائر أفعاله وأعماله فكذا يراه أولى بنتائج أعماله صحّ الكلام وتمّ الاستدلال، يرى بعضهم تمامية المسألة الأولى دون الثانية بمعنى أن العقل يرى أن الإنسان إذا فعل شيئاً كان أولى بفعله وعمله الذي قام به من الآخرين، أما بالنسبة إلى آثار أعماله ونتائجها فإنّهم لا يقبلون بأنّ العقل يحكم بأولوية الإنسان بآثار عمله، لكننا نحن نرى عدم صحة هذا التفكيك، فإن العقل لا يرى فرقاً بين المسألتين والمعيار والمناط أن يكون العمل لهذا الإنسان وطالما أنه هوالذي قام بهذا العمل وقد صدر منه فإن العقل يحكم بأنّ هذا الإنسان أولى من الآخرين بهذ العمل، وهذا الملاك والمناط بعينه موجود في الآثار أيض، فلوكان للعمل أثر كان الإنسان أولى وأحق بهذا الأثر، وهذان وجهان للدليل العقلي.

    الوجه الثالث: للدليل العقلي ما استُدِلّ به في كثير من أبواب الفقه وهوأنّ العقل يرى وجوب حفظ النظام الاجتماعي للبشر ويحكم بقبح

  • ۵۵

    ما يخالف النظام البشري، وهذه المسألة (حفظ النظام) موجودة في أكثر موارد الفقه حيث إنّ المناط والملاك في الواجبات الكفائية هوحفظ النظام فعندما نقول: الطب واجب كفائي، الهندسة واجب كفائي، دراسة العلوم الدينية واجب كفائي، ذلك لأن النظام البشري إنّما يتقوم على هذه الأمور والعقل يحكم بوجوب حفظ هذا النظام البشري ويحكم بقبح اختلاله، وهنا أُشير إلى أحد موارد الاستدلال بهذا الدليل العقلي في الفقه، وهوباب القضاء وذلك لإثبات مشروعية القضاء حيث لوتنازع إثنان وجب عليهما الرجوع إلى القاضي للتحاكم، فلولم يكن القضاء مشروعاً لزم اختلال النظام فيما لوحصل التخاصم والتشاجر بين الناس ولم يقم أحد بفصل الخصومة وحلّ النزاع والعقل يرى قبح اختلال النظام، وهناك مورد آخر في باب الاجتهاد والتقليد، وقد سبق معنا في أوائل مبحث الاجتهاد والتقليد أن من ترك سبيل الدراسة للوصول إلى مرحلة الاجتهاد فلم يجتهد ولم يقلّد أي ترك سبيل التقليد والاجتهاد ألزمه الناس بالعمل بالاحتياط فإن العمل بالاحتياط إنّما يُرخص فيه عندهم ما لم يؤدّ إلى اختلال النظام، فلوانجرّ الاحتياط إلى اختلال النظام كما لوقلنا بأنّ هذ البائع لا نعلم أنّ المال ماله فنحتاط ولا نشتري منه أواحتطنا في جميع موارد الاحتمالات وجب علينا أن

  • ۵۶

    نترك أعمالنا وأشغالنا ونظل في بيوتنا منشغلين بالاحتياط، فالاحتياط مطلوب ما لم ينجرّ إلى اختلال النظام.

    مورد آخر في باب الحدود ففي حد السرقة يجب إجراء الحدود في المجتمع الإسلامي إذْ يؤدي عدم إجرائها إلى اختلال النظام، نعم قد يقوم دليل آخر تعبّدي على عدم جواز تعطيل الحدود شرع، فمن عطَّل حداً شرعياً ارتكب الحرام، ومع قطع النظر عن هذا الدليل الشرعي فإن العقل مستقل عندهم بأنّ عدم إجراء الحدود ينجرّ إلى إختلال النظام، وهناك مورد رابع في دليل الانسداد فإن قلنا بانسداد باب العلم والتزمنا بعدم حجية الظن المطلق لزم اختلال النظام.

    هناك عبارة للإمام(قدس سرّه) في كتاب البيع في باب الحكومة الإسلامية وحكومة الفقيه حيث يستدل على حكومة الفقيه بهذا الوجه (وجوب حفظ النظام) حيث يقول: (أن حفظ النظام من الواجبات الأكيدة واختلال أمور المسلمين من الأمور المبغوضة ولا يختص ذلك بأمور المسلمين بل يعم الجميع، ومن هنا يحكم العقل بأنّ الفقيه يجب أن يتصدّى الحكومة من باب وجوب حفظ النظام بحكم العقل.(1)


    1. كتاب البيع 2: 609 بتفاوت.

  • ۵۷

    ومن الموارد الأخرى أنّ بعض الفقهاء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرى أنّ العقل المستقل يحكم أنّ من رأى وقوع المنكر في المجتمع ولم يمنع من ذلك أدّى ذلك إلى اختلال النظام، من أراد أن يكذب أويسرق أويتّهم أحداً أويزني انجرّ إلى اختلال النظام وقبح إيجاد الاختلال في النظام هوأحد الأدلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    هناك موارد أخرى في الفقه حيث طرح الفقهاء مسألة حفظ النظام البشري وقبح اختلال النظام كعنوان للدليل العقلي المستقل في موارد من أبواب الفقه، ونحن نرى أنّ هذا أمر شائع ودارج في مسألتنا فمن ألّف كتاباً وأراد الآخر طبعه ونشره أومن أراد تكثير السيديات (أقراص السيدي) فإن صاحب العمل غير راضٍ عن ذلك فإنّ من كتب وألّف كتاباً خلال عشر سنوات أوأنتج وصنع فيلماً خلال عشر سنوات وجاء الآخر ليقوم بتكثير هذا العمل أونشره فإنه يوجب اختلال النظام والعقل يستقل بقبح اختلال النظام وبالتالي تكون مراعاة هذه الحقوق واجبة.

    وهذا الدليل العقلي أقوى بكثير من السير العقلائية السابقة.

  • ۵۸

    استفادة الحكم الوضعي من الدليل العقلي:

    بينّا فيم سبق ثلاثة وجوه للدليل العقلي على وجوب مراعاة حقّ التأليف، والجدير بالذكر في هذ الدليل العقلي هوأنّ غاية ما يستفاد منه هوالحكم التكليفي بمعنى أنّ عدم مراعاة حقوق التأليف وغيره يتصف بعنوان الظلم أوبعنوان الإخلال بالنظام الاجتماعي العام ومن خلال الالتفات إلى هذه العناوين نحكم بوجوب مراعاة حقّ التأليف أمّا استفادة الحكم الوضعي كالضمان من هذا الدليل العقلي فغير ممكنة لأن العقل لا يحكم بالضمان على من تعدّى على حقوق غيره وإن حكم بحرمة ذلك، فإن الضمان نتيجة وأثر تترتب على هذا الدليل العقلي، هذا مضافاً إلى أنه لا يستفاد من هذا الدليل العقلي أنّ من مات انتقل حقه في التأليف إلى ورثته، نعم لوأثبتنا كونه مالاً عُدّ ذلك من تركة الميت، أما لولم نتمكن من إثبات المالية فإنه سوف لا ينتقل إلى ورثة الميت.

  • ۵۹

    نتيجة بحث الأدلة:

    ذكرنا إلى الآن خمسة أدلّة على حقّ التأليف تأملّنا في بعضها وقبلنا بعضه، وتوصلنا إلى أنه لا شك في وجود الحق فيما نحن فيه عند العقلاء وعليه فمن أنكر ثبوت الحق لمن ألّف كتاباً وانتهى من طبعه وتأليفه أوتردّد في ثبوت حقّ التأليف لم يبق مجالٌ لإثبات هذه المسألة لا عن طريق السيرة العقلائية في الموضوع أوفي الحكم ولا عن طريق الأدلة الأخرى كما هوالشأن عند بعض الفقهاء منهم المرحوم الإمام(رحمة الله) حيث يذكر في آخر كتاب تحرير الوسيلة أثناء مبحث المسائل المستحدثة ما مضمونه: م يُطرح اليوم عند بعض الفقهاء بعنوان حقّ التأليف أوحقّ الطبع فإننا لا نقبله كحق شرعي ومن اشترى الكتاب صار مالكاً له ودخل الكتاب في ملكه وتجري في حقه قاعدة: (الناس مسلطون على أموالهم) ويقول أيضاً: ولا أثر فيما لوكُتِبَ على غلاف هذ الكتاب عبارة (حقوق الطبع محفوظة)(1) وعليه فإن شككنا في أصل وجود المالية


    1. تحرير الوسيلة 2: 562، الفرع الثالث، بتفاوت.

  • ۶۰

    والحقية لم يبق مجال لاعتبار هذه العقود التي يُعبَّر عنها في أيامنا هذه بالمالكية الفكرية، أما لوثبت عند الفقيه أنّ العقلاء يقرّون بهذا الحق وأنه مال أوحقّ فلا بد له من القبول والالتزام بوجوب مراعاة حقّ التأليف لوجوب مراعاة حقوق الآخرين وعدم التعدي عليها بدليل: (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلّا بطيب نفسه)(1)، و(مَن أتلف مال الغير فهوله ضامن)(2) وذلك لأن إتلاف كل شيء بحسبه فإتلاف الإناء بكسره ومن فكّك رمز القفل للسيدي المتعلق لغيره كان عمله مصداقاً من مصاديق الإتلاف ويجب على المُتلِف الضمان بدفع جميع حقوق صاحبه إليه إذ مع تفكيك رموزه أمكن للناس استنساخه، إلّا إذا صرح مالكه ببقاء حقه الخاص بالنسبة إلى الآخرين.

    ومن هن فلوأدّعى أحدهم إحرازه أنّ حقّ التأليف حقّ ومالٌ عند العقلاء جرت عنده السيرة العقلائية في الموضوع ولا تحتاج هذه السيرة


    1. الوسائل 29: 10، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، ح3.

    2. لم نجده في المصادر الحديثية المعتبرة، راجع القواعد الفقهية للبجنوردي 2:28.

۱۵,۸۵۱ الزيارة