-
۳۱
مراد المرحوم الإمامحجية جميع السير المستحدثة بل مما علمو وأخبروا بوقوع الناس فيه فقط.
الرأي المختار:
باعتقادن ما يمكن أن يستفاد من كلام الإمام هوالاحتمال الأول بمعنى أنّ: (أخبروا بوقوع الناس فيه) لا دور له في استدلال الإمامورأيه وإنما الذي يلعب دوره في نظره هوأنّ الإسلام دين كامل وأن النبي(صلي الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام) قد بيّنو للناس ما يُقرّبهم إلى الجنة ويبعّدهم عن النار فلوعلموا أنّ المؤمنين سيُبتلون في زمن ما بسيرة غير مقبولة من الدين كان عليهم أن يبيّنوا ذلك من خلال عبارة كليّة وبيان عام بحيث يُفهم منها المنع ويستفاد منها ردعهم عن هذه السيرة.
فمن باب المثال نقول في باب الربا (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)(1) أن الله تعالى حرّم الربا ولهذا الكلام إطلاق يشمل جميع أنواع الربا سواءً بين شخصين بأن يقول أحدهما للآخر: أعطيك ألفاً لتسترد إليّ ألفاً ومئتين بعد شهر واحد، أوبين الدولة والبنك من جهة والناس من جهة ففي أيامنا هذه أغلب ما يتوهم فيه الرب هوما كانت الدولة أحد طرفي المعاملة
1. البقرة: 275.
-
۳۲
الربوية بأن تعطي البنوك الحكومية قروضاً للناس ثم تأخذ منهم الزيادات والأرباح، فقد يتصوّر البعضٌ أنّ الرّبا المحرّم هوما كان بين شخصين أما إذا أعطت الدولة أرباحاً أوأخذت فإن ذلك غير محرم.
قلنا لهم: فماذا تفعلون بإطلاق (حَرَّمَ الرِّبَا) حيث يحكم بإطلاقه بتحريم الربا على نحومطلق إلى يوم القيامة، ويتصور البعض الآخر أنّ الربا المحرّم هوالربا الاستغلالي بمعنى أن يحتاج شخص معوز إلى ألف دينار ليصرفه على نفسه أوعلى أولاده أوعلى مريض فيأخذ ألفاً من أحدهم ليردّ إليه ألفاً ومئتي دينار فيما بعد، هذا نوع من الاستغلال، وأما لواستدان من أحدهم ألفاً ليفتح بذلك عملاً منتجاً له حيث يكسب منه ألفاً وخمس مئة فأين الإشكال لوأرجع ألفاً ومئتين إلى الدائن؟ قلنا لهم أنّ هذا كله ينافي إطلاق (حَرَّمَ الرِّبَا).
قال لي أحدهم يوماً ما بأن لا مانع من الربا بين الحكومة والناس والربا المحرّم ما كان بين الأشخاص فقلت له: ان كان المراد بـ (حَرَّمَ الرِّبَا) الربا بين الأفراد فالمراد بـ (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(1) بين الأفراد فلوباعت الحكومة أوالبنك شيئاً لك وأنت اشتريته يجب أن لا يشمله (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مع
1. البقرة: 275.
-
۳۳
أنّ ذلك لم يلتزم به أحد من الفقهاء بمعنى أن يختص (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) بما وقع من البيع بين الأشخاص بل له إطلاق كما أنّ لـ (حَرَّمَ الرِّبَا) إطلاقاً يشمل الموارد السابقة كلها وإلى يوم القيامة، وعليه فلوأنّ سيرة عقلائية سوف تنعقد في المستقبل لم تكن مرضية لدى الشارع كان عليه الردع عنها.
إشكال على مبنى الإمام والجواب عنه:
أول م يتبادر إلى الذهن من الإشكال على كلام الإمام هوأنه يمكن أن تكون العمومات والإطلاقات الرادعة عن هذه السيرة قد صدرت من الشارع لكنها لم تصل إلينا فليس كل م صدر من الشارع قد وصل إلين، فقد يكون الردع قد صدر من الشارع عن هذه السيرة المستحدثة ولم يصل إلينا.
والجواب: عن هذا الإشكال واضح وهوأنّ مجرد صدور الردع غير كاف بل لا بد من وصول الردع إلين ليكون مفيداً في الردع عن السيرة.
وما قرأناه في كلام الإمام(قدس سرّه) يمكن أن يستفاد منه في كثير من المسائل المستحدثة في هذه الأيام، فإذا ادعى فقيه كفاية عدم وجدان الردع عن السيرة المستحدثة فيما بين أيدينا من القرآن والسنة في الاستدلال على
-
۳۴
حجية هذه السيرة المستحدثة لتغير مسار الفقه، وإن قلنا بعدم كفاية هذا المقدار من عدم وجدان الردع في حجية السيرة كان للفقه مسارٌ آخر.
ملخص البحث:
قلنا: إن تمسّكنا بسيرة العقلاء في وجوب مراعاة هذه الحقوق المستحدثة بأن أجرينا السيرة في الحكم لا في الموضوع، بمعنى قيام السيرة على وجوب مراعاة حقوق الطبع والتأليف والاختراع أمكن الإشكال عليه بأنّ هذه السيرة من السير المستحدثة ولا حجية للسير المستحدثة ولا اعتبار له، ثم نقلنا كلام الإمام(عليه السلام) في حجية السير العقلائية المتصلة وغير المتصلة منها بعصر المعصوم(عليه السلام) وذكرنا احتمالين في كلامه، وبينّا طريقة الشارع في الإمضاء على مطلق المرتكزات العقلائية ثم ناقشناها بإشكالاتها.
الإشكال على كلام الإمام(ره):
هل يمكن أن نحكم بحجية سيرة توافق عليها العقلاء بما هم عقلاء بعد ألف سنة من عصر الشارع؟ مع أنّ هذه السيرة لم تبلغ إلى حد الابتناء على حكم عقلي لنُجري عليه قاعدة الملازمة (كلما حكم به العقل
-
۳۵
حكم به الشرع) فإنّ حقّ التأليف مثلاً قام بناء العقلاء على أنّه حقّ من حقوق الإنسان وتجب مراعاته لكنه ليس مبّتنياً على حكمٍ عقلي حتى ندخل في إثباته عن طريق قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. فإن اشترطن في حجية السيرة إمضاء الشارع فإنّا نعلم بعدم وصول الإمضاء من قبل الشارع في هذه السير المستحدثة وإن أمكن توهم بعض الأمور على أنها تثبت إمضاء الشارع وسنذكره، ويمكن أن يُدّعى بأن عدم الردع كاف في المسألة، نعم يمكن القول بالردع في الموضوع المحقق في الخارج أوعلى الأقل في ما أُخبر بوقوعه في المستقبل فإن عقد التأمين مثلاً لم يكن معروفاً قبل ألف سنة واليوم جرت عليه سيرة العقلاء، فلوأنّ الشارع صار في صدد الردع عن هذه السيرة آنذاك لم يكن الناس ليفهموا معنى التأمين، وعليه لا بد في الردع من تحقق الموضوع ليمكن الردع عنه أوفيما وقع الإخبار عن وقوعه، ومن هن كان الحق في جانب المشهور في عدم الدليل على حجية السير العقلائية المستحدثة ويكفينا في ذلك أن نشك في حجيتها فإنّ الشك في الحجية يساوق العلم بعدم الحجية كم ثبت ذلك في علم الأصول فمتى شككنا في حجية شيءٍ فإن هذا الشك يوجب العلم بعدم الحجية فكلما تأملنا ودققنا النظر في
-
۳۶
المسألة رأينا الحق مع المشهور وعليه فلا وجه لما تفضل به المرحوم الإمام(رحمة الله) وقد نقلنا كلامه من كتاب الاجتهاد والتقليد.
الأدلة المتوهمة على حجية السير المستحدثة:
وهناك أمور يمكن أن يتوهم كونها أدلة على حجية السير المستحدثة:
الأمر الأول: تمسّك بعضهم بالقرآن الكريم على حجية السير المستحدثة من سورة الأعراف: (خُذِ الْعَفْووَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)(1) والاستدلال بفقرة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) حيث إن العرف ما هومتعارف بين الناس، ما هومعروف بين الناس، ما يستحسنه الناس.
فلوالتزمن بهذا المعنى الكلي للعرف قلنا: إن النبي(صلي الله عليه وآله) كان مأموراً بأن يأمر الناس بما يقبلونه ويرتضونه فلوأنّن حملنا العرف على معنىً يشمل سيرة العقلاء دلّت الآية على إمضاء جميع السير العقلائية والأمور العرفية كلها (العرف في عصر الشارع والعرف إلى يوم القيامة).
ولا يمكن الالتزام بأن الألف واللام الداخلة على لفظ (العرف) لتعريف العهد ليكون مراد الله به نوعاً خاصاً من العرف، بل الألف واللام
1. الأعراف: 199.
-
۳۷
للجنس أي كلّما كان مصداقاً للعرف من زمان الشارع إلى يوم القيامة، فإن أُمِر به النبي(صلي الله عليه وآله) أُمِر به جميع الناس وبهذا يكون القرآن قد صحّح جميع السير العقلائية وأمضى عليها إلى يوم القيامة من خلال هذه الآية الشريفة.
الإشكال على هذا الدليل الأول المتوهم:
توضيح الإشكال هوأن للعرف عنواناً موضوعياً في قوله تعالى: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) ويعني تلك الموضوعات المعروفة بين الناس بعنوان الحسن والمعروف، وهذا لا علاقة له بالأحكام الشرعية وإنّما الكلام في استفادة الأحكام من السيرة العقلائية، ألا ترى أنه لا يمكن لأحد أن يدعي بأن الناس غالباً ما يستخرجون الحكم الشرعي من القياس فيكون عملهم هذا داخلاً في الآية إلّا أن العمل بالقياس خرج من الآية بالأدلة الدالة على حرمة القياس، لا يجوز هذا الادّعاء أبد، فإنّ (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) ليس ناظراً إلى الأحكام بل نظره إلى الموضوعات التي عُرفتْ عند الناس بالمعروف سواء يراه العقل معروفاً أوالعقلاء أوالشارع يراه معروفاً ويكون معنى الآية: بيّنْ للناس الأشياء والموضوعات الحسنة.
-
۳۸
يقول صاحب كتاب مجمع البيان المجلد الرابع ص512: العرف هوالسيرة الحسنة والعادة المرضية التي يدرك حسنها وصحتها عقول الناس.(1)
وللعلامة المرحوم الطباطبائي(2) نظير هذا الكلام في ذيل هذه الآية وعلى المعنى الذي ذكر للعرف في مجمع البيان ينحصر الكلام في الأعمال والموضوعات الخارجية ولا ربط له بالأحكام، فلا تأمر الآية (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) بقبول الحكم الشرعي المستخرج من سيرة عقلائية.
وفيما نحن فيه نريد أن نعرف هل أنّ الشارع أمضى على صحة الحكم المستفاد من سيرة العقلاء أولا؟
والاستدلال بهذه الآية إنما كان لأجل أن نثبت إمضاء الشارع على السير المستحدثة إلى يوم القيامة تلك السير التي يستخرج منها الأحكام
1. قال الطبرسي في ذيل الآية الشريفة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) يعني بالمعروف، وهوكل ما حسن في العقل فعله، أوفي الشرع، ولم يكن منكراً ولقبيحاً عند العقلاء، مجمع البيان 4: 415، راجع تفسير التبيان 5: 62.
2. الميزان 8: 384.
-
۳۹
الشرعية إلّا أننا نرى أنّ العرف (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) لا مدخلية له بالأحكام وبالتالي فلا علاقة للآية بما نحن فيه.
ومن هنا فإن الرواية الواردة في ذيل هذه الآية الشريفة عن النبي(صلي الله عليه وآله) الذي يقول: (إن مكارم الأخلاق عند الله أن تعفوعمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي مَن حرمك، ثم تلا النبي«صلي الله عليه وآله» هذه الآية...)(1) لها مصاديق خارجية ولا علاقة لها بالأحكام.
وعليه ل تدل الآية الكريمة على ما نحن بصدده.
الدليل الثاني المتوهم على حجية السير المستحدثة:
قد يقال: إنه يستدل على حجية السير المستحدثة بآية: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(2) أو (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)(3) كيفية الاستدلال أن سيرة العقلاء عهد بين العقلاء وهي تعني بناء العقلاء وتبانيهم وتوافقهم، والمراد بالعقود في (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هوالعهود، وكذا الآية الأخرى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) حيث إن السيرة العقلائية
1. راجع تفسير الدر المنثور 3: 282.
2. المائدة: 1.
3. البقرة: 177.
-
۴۰
سواء في الموضوعات أم في الأحكام، تعتبر من مصاديق العهد، فلوقامت سيرة العقلاء على حكم كوجوب مراعاة حقّ التأليف ولوبعد ألف سنة فإنها عهد وكل عهد يجب الوفاء به بحسب الآية.
والاستدلال بهذه الآية أقوى من الاستدلال بالآية السابقة فإن السيرة العقلائية هنا وإن كانت في الأحكام فإنها توافق وتبانٍ وعهد بين العقلاء ومضمون الآية: (أَوْفُو بِالْعُقُودِ) والعهود إلى يوم القيامة.
الإشكال على الدليل الثاني:
الإشكال الأهم على هذا الدليل إنّما يتمثّل في التشكيك والترديد في صدق العهد على السيرة العقلائية إذ لوسألنا العقلاء أنفسهم: هل هناك عهد وتعاهد بينكم عند قيام سيرتكم على وجوب اعتبار حقّ التأليف؟ قالوا: كل، فنحن نسلّم أنه كلما حصل العهد حصل التوافق وليس كلما حصل التوافق والتباني كان العهد موجوداً.
مثلاً لوجرى بناء العقلاء عملاً على أنّ العبور من الشارع يجب أن يتم من موضع خاص من الشارع فهل يوجد هنا عهد منهم؟ كلا والشاهد على ذلك هوأنّه لوخالف أحدهم هذا التباني وعبر الشارع من نقطة