-
۲۱
أولا؟ أهم إشكال نواجهه في هذا البحث هوأنّ هذه السيرة من السير المستحدثة أمّا قديماً في عصر الشارع فلم يكن هناك شيء يسمّى بحق التأليف ـ حقّ الاختراع ـ حقّ الاختصاص ـ وقد استحدثت في الأزمنة المتأخرة فهي سير مستحدثة ول عبرة به، وهذا مبنى كثير من الأصوليين حيث يرون أنّ السير العقلائية في زمان الشارع إذا أمضى عليها الشارع كانت حجة أما السير العقلائية المستحدثة فيما بعد فليست بحجة.
الجواب عن الإشكال:
هنا وجوه عديدة للردّ وطرق متعددة لحل هذا الإشكال:
الأول: سلّمنا اعتبار إمضاء الشارع في السيرة العقلائية لكن لا يجب إمضاء الشارع لكل سيرة من السير العقلائية على نحوالخصوص بل يكفي إمضاؤه الكلي للأمور العقلائية بما هم عقلاء، نعم يرد الإشكال فيما لواعتبرنا إمضاء الشارع على كل سيرة على نحوالاستقلال وصحّ أن يقال بأنّ سيرة العقلاء في حقّ التأليف لم تكن موجودة في عصر الشارع ولم تكن بالتالي قابلة لإمضاء الشارع إذ ما لا وجود له ليس
-
۲۲
قابلاً للإمضاء، وأما لوقلن بقبول الكبرى القائلة بأنّ السيرة العقلائية تحتاج إلى إمضاء الشارع إلّا أن الشارع إنّما أمضى وأيّد في زمانه جميع الشؤون العقلائية بما هم عقلاء أي ما لا علاقة له بالأمور العبادية والتعبدية، وبتعبير آخر نقول: إن الشارع أوكل الأمور العقلائية إلى العقلاء أنفسهم لكنه ردع منها في بعض الموارد الخاصة.
بيان المسألة في كلام الشهيد الصدر(قدس سرّه):
ذكر الشهيد الصدر هذه المسألة في كتابه(1) تحت عنوان (قد يقال) ولمّا كان البحث هاماً وقد استفيد منه في موارد عديدة في الفقه أنقل نص عباراته مع أنه أورد عليه إشكالين إلّا أنّ هذه النظرية لما كانت نظرية جديدة فلا بد من البحث حولها قال: (إنّ الشارع قد أمضى السير العقلائية المعاصرة له لا بوصفها الشخصي بل بوصفها النوعي العقلائي) أي أنّ الشارع في السنوات المئتين التي عاش فيها النبي(صلي الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام) أمضى على تلك السير العقلائية لا بعنوان أنها سير مشخصّة معيّنة بل بوصفها النوعي: (بمعنى أنه يفهم من عدم تصدّي الشارع
1. بحوث في علم الأصول ج4، ص237.
-
۲۳
لبيان أحكام وتأسيس تشريعات في أبواب متعددة من الحياة مما للعقلاء شأن فيه أنه قد تركها إليهم وحوّل على ارتكازهم) فلوكانت السير العقلائية مئة في زمان الشارع فقد أمضى عليها وكان إمضاؤه عليها على أساس ملاك عام حيث ترك الأمور العقلائية التي للعقلاء شأن فيها إلى العقلاء أنفسهم (فيكون هذا إمضاءً إجمالياً لما ينعقد عليه بناؤهم).
وبعبارة أخرى نقول: إنّ الشارع قد قبل الارتكازات العقلائية على نحوكلي بمعنى قبوله للمرتكزات العقلائية في كل عصر وزمان.
إشكال الشهيد الصدر على هذا الكلام:
بعد أنّ بيّن ذلك بعنوان (قد يقال) أورد إشكالين على ذلك:
الأول (قال): (لم يثبت سكوت الشارع عن أعصار الأحكام والتشريعات في سائر الموارد التي يراد التحويل فيها على السيرة العقلائية بل قد بُيّنَت أحكامها أيضاً).
بمعنى أنّ الشارع لم يسكت عند صدور الأحكام والتشريعات عن سائر الموارد وعليه فلوأنّ الشارع سكت عن سائر الموارد تعويلاً على ارتكاز
-
۲۴
العقلاء كان الاستدلال بسيرة العقلاء هن صحيحاً إلّا أن هذا الأمر ليس بثابت.
وبعبارة أخرى: لوأنّ الشارع قد سكت في هذه الموارد التي تدّعون أنها ساحة لنفوذ رأي العقلاء وميدان لجريان سيرتهم كان ما تقولونه تاماً إلّا أنّ الشارع لم يسكت فيها بل بيّن أحكامه فيها كما في أبواب المعاملات والاجتماعيات والسياسيات حيث يكون للعقلاء فيه نظرها وأحكامه، (بل قد بيّنت أحكامها أيضاً أو ورد ما يحتمل صدوره عن الشارع في مقام بيانها).
الثاني: وهوأدقّ من الأول حيث يقول: إنّ سكوت الشارع إنّما يدلّ على إمضاء السيرة على نحوالقضية الخارجية بمعنى أنّ الشارع أمضى بسكوته على السير الموجودة في الخارج فلا يشمل هذ بعنوان قضية خارجية السير العقلائية إلى يوم القيامة وليس السكوت كاللفظ حيث يستطيع الشارع أن يُمضي بلفظه على جميع السير العقلائية إلى يوم القيامة.
-
۲۵
الإشكال على السيرة:
تلخيصاً لإشكالي المرحوم الصدرuنقول بأنه لوسئِلنا عن إمضاء الشارع قلنا لم يثبت ذلك بمعنى أنّ الشارع بإيكاله الأمور والشؤون العقلائية إلى العقلاء أنفسهم أراد أن يُمضي على جميع السير العقلائية إلى يوم القيامة قلنا: إنه لم يثبت لنا أنّ الشارع قد أوكل الشؤون العقلائية إلى أنفسهم.
وبهذ البيان الآخر فلا حاجة إلى إشكالات الشهيد الصدر وكفى في الإشكال أنّ ندعي عدم ثبوت إيكال الشارع الأمور العقلائية إلى أنفسهم، فلوفرضنا أنّ الشارع قد أمضى على مئة سيرة عقلائية كانت موجودة في عصره فإن هذا لا يعني أنه أمضى على كل سيرة عقلائية تنعقد إلى يوم القيامة، ولاسيما أنّ في زماننا هذا حيث تنعقد سيرة مستحدثة للعقلاء في كل يوم على مسألة م، كما في باب الأعراض والنفوس فإن السيرة العقلائية تقوم في أيامنا هذه على عدم القصاص فارتكز بناؤهم بما هم عقلاء على أنّ من قتل شخصاً لم يقتصوا منه بل يحكمون عليه بالسجن المؤبد فلا نستطيع أن نحكم بأن الشارع ترك
-
۲۶
العقلاء بما هم عقلاء إلى أنفسهم فلا يكون ذلك رافعاً للمحذور والإشكال.
خلاصة البحث ونتيجته:
قلنا: لوادّعى قيام سيرة العقلاء على وجوب مراعاة هذه الحقوق اتّجه عليه الإشكال بأنّ هذه السيرة سيرة مستحدثة، ثم ذكر وجه التقصّي عن هذا الإشكال، وقد أورد الشهيد الصدر إشكالين على هذا الوجه، ونحن بدورنا استخرجنا من هذين الإشكالين إشكالاً واحداً وعليه لا يتم وجه التقصي والحل السابق.
أمّا الإمام الخميني(قدس سرّه) فله نظرية أخرى وهومن القائلين بحجية هذه السير المستحدثة وله بيان آخر، وعليكم بمراجعة كتابه(1).
الإشكال على سيرة العقلاء على حقّ التأليف:
قلنا إنّ في الاستدلال بسيرة العقلاء على هذه الحقوق المستحدثة كحق التأليف وحق الاختراع لوالتزمنا بقيام السيرة العقلائية على اعتبار هذه
1. الاجتهاد والتقليد، الطبعة الجديدة، ص81.
-
۲۷
الحقوق ووجوب مراعاتها أي أنّ هذه الحقوق مضافاً إلى ثبوتها بسيرة العقلاء يثبت بها وجوب الالتزام بها وقبوله وصلاحيتها للنقل والانتقال وأنها تورث وأنها لوأتلفها شخص ضمنه، قلنا: بأنّ الإشكال الذي يواجه ذلك هوأن السيرة العقلائية يجب أن تمضى من قبل الشارع أولم يردع منها الشارع مع أنّ هذه السيرة لم تكن موجودة في عصر الشارع حتى يمضي عليها الشارع أولم يردع عنها.
الجواب الأول عن هذا الإشكال:
قلنا إنّ وجه التقصي عن هذا الإشكال أولاً بأن نقول: إنّ الشارع وإن لم يكن موجوداً في زمان هذه السيرة المستحدثة إلّا أنه وافق على إيكال الأمور المتعلقة بالعقلاء إلى العقلاء بمعنى أنه قَبِلَ جميع المرتكزات العقلائية بما هم عقلاء في جميع الأزمنة، وقد بينّا الإشكال على هذا الوجه.
الجواب الثاني:
والوجه الآخر بأن ننكر أصل المبنى ونلتزم بعدم التفريق بين أن تكون السيرة العقلائية في زمن الشارع أومستحدثة ولما كان الإسلام ديناً أبدياً
-
۲۸
وكان الشارع عالماً بوقوع السير المستحدثة بين العقلاء إلى يوم القيامة كان عليه أن يعلن مخالفته لهذه السير لوكانت مخالفة للواقع ولوعن طريق بيانٍ عام أومطلق أوغيرهما ليفهم ردعه عن تلك السير المستحدثة بذلك العموم أوالإطلاق، ولا يمكن القول بأنّ الشارع أهمل موقفه من تلك السير المستحدثة فلم ينكرها ولم يؤيده، وعلى هذا فنقول: بأن الشارع طالما لم يردع عن هذه السير الجديدة من خلال إطلاق أوعموم فإنها مقبولة لديه من غير محذور في ذلك، خالف هذا المبنى أغلب الفقهاء والأصوليين ورأوا حجية السير الواقعة في زمن النبي(صلي الله عليه و آله) والأئمة الممضاة من قبلهم أومع عدم ردعهم عنها دون السير الواقعة بعد زمان الشارع فلا حجية لهذا القسم عندهم.
رأي المرحوم الإمام:
في مقابل هؤلاء يرى بعض الفقهاء أنّ الشارع عليه أن يتخذ موقفاً واضحاً من هذه السير المستحدثة من باب أنّ الدين دائم وشامل، ومن هنا يرى الإمام(رحمة الله) حجية السير المستحدثة حيث ذكر في كتابه (الرسائل) في مبحث الاجتهاد والتقليد أهم دليل على جواز التقليد ومشروعيته وهورجوع الجاهل إلى العالم وجعل سيرة العقلاء دليلاً
-
۲۹
على هذه المسألة ثم ذكر الإشكال بأن رجوع الجاهل إلى العالم في باب الأحكام لم يكن أمراً دارجاً في زمن الأئمة(عليهم السلام) ليؤيده الأئمة(عليهم السلام)، ثم أجاب عن الإشكال بقوله: (ضرورة أنّ ارتكازية رجوع الجاهل في كل شيء إلى عالمه معلومة لكل أحد وأن الأئمة(عليهم السلام) قد علموا بأنّ علماء الشيعة في زمان الغيبة وحرمانهم عن الوصول إلى الأمام لا محيص لهم من الرجوع إلى كتب الأخبار والأصول والجوامع كما أخبرو بذلك ولا محالة يرجع عوام الشيعة إلى علمائهم بحسب الارتكاز والبناء العقلائي المعلوم لكل أحد فلولا ارتضاؤهم بذلك لكان عليهم الردع إذ لا فرق بين السيرة المتصلة إلى زمانهم وغيرها مما علموا وأخبروا بوقوع الناس فيه فإنهم أخبروا عن وقوع الغيبة الطويلة وأن كفيل أيتام آل محمد(صلي الله عليه وآله) علماؤهم وأنه سيأتي زمان هرجٍ ومرجٍ يحتاج العلماء إلى كتب أصحابهم).
دراسة كلام المرحوم الإمام(قدس سرّه) والإشكالات عليه:
ظاهر كلامه أنه لا يشترط في حجية السيرة استمراريتها واتصالها بزمن الإمام المعصوم(عليه السلام) ووقوعه فيه بل أنّ السيرة المستحدثة لها الحجية أيضاً وربما يمكن القول بأنّ كلام الإمام(رحمة الله) ذواحتمالين:
-
۳۰
الاحتمال الأول:
أن يكون رأيه الشريف هوأنّ الإسلام لمّا كان ديناً شمولياً والنبي(صلي الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام) يعلمون الغيب وما يستحدث في المستقبل وهم الذين قالوا: (ما من شيءٍ يقربكم إلى الجنة إلّا أمرتكم به وما من شيءٍ يبعّدكم عن النار إلّا نهيتكم عنه)(1) ومن هنا فإن علموا بوقوع سِيَر ممنوعة في زمان ما غير مقبولة من قبل الدين كان عليهم أن يردعوا منها.
فما دام لم يمنعوا فإن سكوتهم وعدم ردعهم في زمنهم يكون دليلاً على السير العقلائية القائمة ولوبعد ألف سنة، فتكون حجية السيرة العقلائية مطلقة على رأيه الشريف.
الاحتمال الثاني:
في قوله(قدس سرّه): (مما علموا وأخبروا بوقوع الناس فيه) حيث يستفاد منه أنّ حجية السيرة منحصرة في الموارد التي أخبر الأئمة(عليهم السلام) بوقوعها بين الناس كإخبارهم بأنه سيأتي زمان تطول فيه غيبة إمامهم ويُحرمون من الوصول إليه فلا بد من اتّباع علمائهم، وعلى هذا الاحتمال لا يكون
1. فروع الكافي: 434، كتاب المعيشة، ح1.