-
۱۱
هذا له حكم تكليفي وهو حرمة المخالفة وحكم وضعي وهو وجوب الضمان، فلابد من البحث حول أصول أدلة هذه الفتاوى وجذورها لنصل إلى النتيجة المطلوبة.
في أيامن هذه يجب التقيّد بهذه الحقوق عالمياً وفي أغلب البلدان حتى أنّ العنوان الذي يختاره مؤلف لكتابه لا يحق لأحد أن يختاره عنواناً لكتابه ولو فعله عدَّ ذلك جريمة يترتب عليها بعض الآثار القانونية، أما بلدنا الذي لم يرضخ لبعض القرارات الدولية فلم يدخل تحت هذا القانون، وربما قد دخل فيه في العام الأخير، فلو أردنا أن نبحث عن القوانين التي مرّت بها المطبوعات من وجهة نظر قانونية لاحتاج ذلك إلى مئات الصفحات من البحث وعليكم بمراجعة الكتب المؤلّفة في موضوع حقّ الطبع والتأليف وما نحن في صدده هو البحث عن المسألة من وجهة نظر فقهية فإنّ هذه الحقوق التي أقرّ به العقلاء والتي تطرح على أساس أنها حقوق عقلائية هل يجب التقيّد بها أولا؟
أدلة وجوب مراعاة حقّ التأليف:
فقد استُدل على ذلك بأدلة متعددة: أوّل هذه الأدلة ولعلّه أهمّها سيرة العقلاء حيث إنّ العقلاء يحكمون بوجوب التقيّد بهذه الحقوق ولم يردْ
-
۱۲
من الشارع ردع ومنع عن هذه السيرة، والكل يعلم أنّ حجية السيرة العقلائية تتوقف على إمضاء الشارع لها أو عدم ردع الشارع عنه، وعليه يمكن أن تكون السيرة العقلائية دليلاً على وجوب التقيّد بهذه الحقوق.
بحث الدليل الأول وأقسامه:
لا بدّ من الالتفات إلى بحث السيرة العقلائية: قد تجري السيرة العقلائية في الموضوعات فتعيّن لنا موضوعاً من الموضوعات ولا حاجة في هذا القسم من السير العقلائية إلى إمضاء الشارع أو عدم ردعه منه، فمثلاً يقول الشارع فيمن اختلف مع زوجته بحيث جرى حديث الطلاق في البين (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)(1) والإمساك بمعروف يدلّ على وجوب النفقة أي تجب النفقة على ما شاع عند عرف الناس، فلو قامت سيرة العقلاء في زمننا على أنّ نفقة الزوجة تشمل أموراً عديدة لم يكن بعضها من النفقة في السابق كحق الزوجة في الدراسة والتعلّم أو استئجار خادمة لها في البيت وجرت سيرة العقلاء على هذه الحقوق في
1. البقرة:229.
-
۱۳
أيّامنا فإن هذا يعني أنها عيّنت موضوعاً لم يكن يُعدّ من أفراد النفقة فجعلته منها ولا حاجة إلى إمضاء الشارع أوعدم ردعه في مثل هذه السِّير العقلائية.
وبعبارة أخرى: إنها تشتمل جميع الموارد التي اختلفت مصاديقها من وجهة نظر عقلائية حيث لم يكن المصداق من مصاديق عنوانٍ ما سابقاً ثم أصبح مصداقاً له كما سبق في بحث الحيازة: حيث كانت الحيازة تتحقق بأن يجمع الشخص حطباً من الصحراء بيده أو بمنجله، وأما الآن فصار للحيازة مصداق آخر وهو أن يجمع الشخص حطباً من الصحراء بالأجهزة الحديثة هكتارات عديدة.
ففي هذه الموارد لدينا في الشريعة عنوان كلّي، أما العقلاء فيحدّدون موضوعه بأن يوسّعوه أو يضيّقوه كما إذا لم يكن الشيء مصداقاً للبيع عند العقلاء في زمن نزول الآية (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(1) واليوم أصبح مصداقاً له، ففي الماضي حتى قبل ما يقارب من عشرين سنة لم يكن هناك م يُعرف الآن بالبيع الزماني، وقبل مئة عام لم يكن هناك ما يعرف الآن بعقد التأمين، فتلك السير العقلائية التي تحدّد الموضوع
1. البقرة:275.
-
۱۴
فتدخل مصداقاً فيه وتُخرج منه آخر ل تحتاج إلى إمضاء الشارع بل يكفي أنّ يحكم العقلاء بأنّ هذا الفرد مصداق لذلك العنوان الكلي وأنّ هذا العنوان ينطبق على هذا الفرد.
ويمكن الاستدلال بالسيرة العقلائية فيما نحن فيه بأن نقول: إنّ الالتزام بمراعاة حقوق الآخرين ـ بعنوان أنه حكم شرعي أولي ـ واجب تمسّكاً برواية (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلّا بطيب نفسه)(1) الواردة في خصوص المال بأن نعممها على جميع الحقوق إذْ لا خصوصية للمال، أوبالروايات الأخرى التي تحكم بلزوم مراعاة حقّ الله وحق الناس، والعقلاء هنا ل ينشئون حكماً ولا شأن لهم بالحق وإنّما يرون أنّ من يؤلّف كتاباً كمن بنى له بيتاً حيث لا بد له من طي المراحل القانونية لتسجيل العقار باسمه في المحكمة ليكون ذلك سنداً دالاً على ملكيته لهذا البيت، فَمَثَل هذا الإنسان عند العقلاء كمثل من كان يبني له بيتاً في الصحراء قبل خمس مئة عام حيث يُعد ذلك حقاً له.
1. كنز العمال 1: 92ح399، عوالي اللئالي 1: 222، وسائل الشيعة 29: 10، أبوابالقصاص في النفس ب1 ح3.
-
۱۵
كذلك العقلاء يرون اليوم أنّ من مصاديق الحق حقّ من أتعب نفسه وعانى ما عانى في جمع معلومات ومطالب علمية وترتيبها وتأليفها وإظهارها للناس بصورة كتاب وكذا من أبدع فكرةً أونظرية جديدة فإن هذا يُعد حقاً عند العقلاء، فإننا لورجعنا إلى العقلاء فكما أن بناء البيت عندهم إحداث للحق كذلك التأليف والإبداع.
والاختراع إحداث للحق لفاعله، هذا ولولاحظنا فتاوى الفقهاء في ذلك لوجدنا تعبيرات الفقهاء مجملة قد شابها الخلط، فقد يرى المرء أن لا مناص من التعبير بشكل سلس ليفهمه عامة الناس.
بحث حول موارد الرجوع إلى العرف:
لا بد من التحقيق والبحث حول الموارد التي يجب فيها الرجوع إلى العرف، يرى المرحوم الآخوند في كتاب الكفاية أنّ موارد الرجوع إلى العرف تنحصر في تشخيص مفاهيم الألفاظ فقط كتعيين معنى لفظ (الصلاة) أولفظ (الصعيد) أمّا تعيين الموضوعات فلا دور للعرف فيه بمعنى أنّ العرف ليس له أن يحدّد أنّ هذا المائع دمٌ أوليس بدم، إذ أنّ العرف يعيّن لنا معنى الدم أما تطبيق هذا المعنى على مصاديقه فإنه من وظيفة العقل، وقد خالف هذ الرأي المرحوم الإمام الخميني(قدس سره)
وبعض تلامذته حيث ارتأوا أنّ العرف يمكنه تحديد المصاديق كما يمكنه تحديد المفاهيم لكنّنا في مقام الاستدلال لا علاقة لنا بالعرف ولا نقول بلا بدية الرجوع إلى العرف في تعيين أنّ هذا الشيء يعدّ حقّاً للآخرين أم ل، لنقع في النزاع القائم بين المرحوم الآخوند وبين المرحوم الإمام، بل نستدلّ بسيرة العقلاء وأنّ العقلاء يعتبرون هذا الشيء حقّاً لصاحبه ويتلقّونه على أساس أنه حقّ، فكما لوأمرنا المولى بشيء ثم يأتي من بعده العقلاء ليجعلوا تكليفاً وحقاً للمولى في ذمتنا فكذلك في موارد التأليف والبحث والطبع والاختراع والابتكار فإن السيرة العقلائية توسّع دائرة موضوع الحق وتجعل لنا في هذه الموارد مصداقاً جديداً من مصاديق الحق، كما أنّ في باب عقد التأمين يحكم العقلاء بأنه عقد فيدخل في عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) فنتمسّك فيه بعموم قاعدة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فلوتمسّكنا فيما نحن فيه بالسيرة العقلائية بهذا الحد لم نواجه أي محذور ولم تكن هذه السيرة بحاجة إلى إمضاء الشارع أوعدم ردعه منها.
1. المائدة:1.
-
۱۶
نتيجة الاستدلال بسيرة العقلاء:
فلوأردنا أن نأخذ الحكم من العقلاء وكان دورهم توسعة المصداق أوتضييقه لم نحتجْ إلى إمضاء الشارع وعدم ردعه وعلى رأينا يكفي في المقام أن السيرة العقلائية قامت على حقّ الطبع والتأليف، وقد ورد في بعض الفتاوى: (بحكم العقل والعقلاء) فإن هذا التعبير يختلف صناعياً عن كلامنا فإننا لا نريد الاستناد إلى العرف في ذلك حتى يعترض علين أمثال صاحب الكفاية بأنّ وظيفة العرف هي تشخيص مفاهيم الألفاظ بل نرى أنّ السيرة العقلائية ترى أن هذا حقّ فيدخل في العمومات والقواعد الكلية القائلة بأنّ كل حقّ تجب مراعاته.
كما يمكن الاستغناء عن كلمة (الحق) بل نقول: أنّ العقلاء يعدّون ذلك مالاً والقاعدة الكلية تحكم بأنه (لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه)(1).
وقد ذكرو للمال تعريفين سنذكرهما إنشاء الله وعليكم بمراجعة كتاب الاجتهاد والتقليد لتعرفو أنّ من جملة الموارد التي خالف فيها الإمام
1. وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة أبواب مكان المصلّي ب3 ح1.
-
۱۷
الخميني نظرية مشهور الأصوليين هوأنه يرى حجية السير العقلائية المستحدثة على خلاف ما ذهب إليه المشهور.
ملخص البحث السابق:
قلنا: إن كان المراد بالسيرة العقلائية بيان الموضوع والمصداق جاز الاستدلال بها من غير إشكال ومحذور، وإنّما تحتاج السيرة العقلائية إلى إمضاء الشارع أو عدم ردع الشارع منها في غير الموضوعات.
إذْ ل يتدخل الشارع في الموضوعات غالباً وليست وظيفته تشخيص موضوعات الأحكام، نعم يمكن له تعيين الموضوع أحياناً ولسنا في صدد إنكار ذلك بالكلية، إلّا أنّ مبناه ليس على التدخل في تشخيص الموضوعات وعليه لوُجدتْ سيرة العقلاء في موضوع من الموضوعات لم يحتج ذلك إلى إمضاء الشارع لها أو عدم ردعه عنه، فقد تطرق الشهيد الصدرu إلى هذا البحث في كتابه(1)، حيث يمكن الرجوع إليه لمن أراد المزيد من المعلومات، فلو ثبت وجود الحق في هذه الموارد
1. بحوث في علم الأصول ج4ص234.
-
۱۸
بالسيرة العقلائية أثبتنا وجوب مراعاة حقوق الآخرين بالعمومات والإطلاقات في الشريعة المنطبقة على ما نحن فيه.
بيان المسألة بعنوان المالية:
والبيان الآخر هو أنّ هذا الحق له عنوان المالية فإن من يؤلّف كتاباً ثبت له الحق وهذا الحق مال والمال ما يرغب به العقلاء أوما يبذل بإزائه المال ويدخل في عمومات (لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه)(1).
إشكال:
قد يقال هنا: بأنّ المال يترتب عليه بعض الآثار في الشريعة كالضمان مثلاً حيث يقولون: (من أتلف مال الغير فهوله ضامن)(2) وفي باب الإرث حيث يكون المال (تركة الميت) للوارث، وهذا هو من جهات الفرق بين الحق والمال فإن الحق لا يُورّث في كثير من الموارد كحق
1. كنز العمال 1: 92، ح399.
2. لم نجده في المصادر الحديثية المعتبرة، راجع القواعد الفقهية للبجنوردي 2:28.
-
۱۹
الحضانة حيث لا يورث هذا الحق بموت الأم كما لا يورث حقّ ولاية الأب على ابنه، نعم بعض الحقوق في المعاملات كحق الخيار يورث، هذا بينما أنّ المال من سماته الخاصة أنه يورث، فهل توجد هذه الملاكات في هذه الحقوق المبحوث عنها؟ فإن قلنا بأنّ حقّ التأليف حقّ كسائر الحقوق في باب الخيارات فإنه يورث كما أنه يوجب الضمان فيما لو أتلفه أحد، وإن قلنا بأنّ له عنوان المالية فلم يبعد القول بثبوت الضمان هنا أيضاً فمن ألّف كتاباً كتبه بخط يده فأتلفه الآخر ومزّقه فهل يمكن القول هنا بضمان قيمة القرطاس فقط مع أنه صرف عليه من وقته بمقدار عشرة أيام مثلاً كمن يعمل أجيراً في هذه الأيام مقابل مبلغٍ من المال؟ لا ليس الأمر كذلك بل أتلف هنا حقّ هذا الشخص الذي إختص به من جرّاء التأليف، فإنّ إتلاف كل شيء بحسبه فإتلاف الأعيان الخارجية هوإفناؤها وإزالتها والإتلاف في هذه الحقوق بحسبها نظير ما إذا كسر أحدهم قفل جهاز السيدي في أيامنا هذه حيث يقال عنه: إنه أتلف مال هذا الشخص، وعليه فقد استقر رأينا على جريان هذه الأمور ـ من صدق إتلاف المال والتوريث وجميع الآثار المترتبة على المال ـ فيما نحن فيه.
-
۲۰
هذا ولو سلّمنا عدم ترتب بعض آثار المال هنا كما لو التزمنا بأن حقّ التأليف له عنوان المالية ويصدق عليه أنه مال لكن أثبتنا بالدليل الخارجي بأنه لا يورث أوأن إتلافه لا يوجب الضمان فإن هذا لا يعني إخراجه من المالية، وهذا نظير ما إذا اشترط الخياط مع صاحب القماش بأنه له تلف قماشه عنده أوهوأتلفه أن يبرئ ذمته ويُسقط عنه الضمان فإنّ هذا لا يعني سقوط المالية عن القماش وإن سقط الضمان، وعلى هذا فلوسلّمنا بعدم ترتب بعض الآثار على حقّ التأليف إلّا أنّ ذلك لا يُخرجه عن المالية، فالعمدة في الاستدلال أنه لوأريد الاستدلال بسيرة العقلاء على الحكم لا على الموضوع بمعنى أن يقال: قامت سيرة العقلاء على وجوب الالتزام بهذه الحقوق لا على وجودها فلا بد حينئذٍ من إمضاء الشارع أوعدم ردعه، إذ أن السيرة بما هي هي لا حجية لها ولا تعتبر دليلاً للفقيه.
أهم الإشكالات على السيرة:
فلواستدللن بالسيرة على الحكم أي على لزوم التقيّد بهذه الحقوق لا على أصل وجودها فلا يبقى مجال للبحث في صغراها فيكون الرجوع إلى العقلاء في وجوب مراعاة هذه الحقوق، وهل هذه السيرة حجة