-
۳۱
ثانياً ـ إنّه لا قرينة على الانصراف، وعليه فلا يمكن التعويل عليه كدليل يعتمده الفقيه. وقد ذكر البعض أنّ القرينة هي عبارة عن مناسبات الحكم والموضوع. ولكن الصحيح عدم إمكان اعتبار ذلك قرينة؛ لأنّ الهلال كما يناسب رؤيته بالعين غير المسلّحة يناسب أيضاً رؤيته بالعين المسلّحة.
موارد من عدم حمل الفقهاء المطلقات على الفرد المتعارف في الفقه
من خلال ملاحظة موارد عديدة من الحالات التي لم يحمل فيها الفقهاء المطلقات على الفرد المتعارف مع وجوده نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ الفقهاء لا يحملون المطلق على الفرد المتعارف في جميع الموارد ما لم تكن هناك قرينة في المقام:
1 ـ قال صاحب الذخيرة في مسألة جواز تطهير المخرج من الغائط إذا تعدّى بالماء فقط أو بالأحجار أيضاً: «ولا يخفى أنّ الأخبار الدالّة على الاكتفاء بالأحجار مطلقة من غير تفصيل بالمتعدي وغيره» ثم قال: «فإن لم يكن إجماع على الحكم المذكور كان للتأمل مجال».(1)
فمع أنّ المتعارف هو موضع الغائط حتى أنّ بعض الفقهاء كصاحب الجواهر قد عللّه بقوله: «لبناء الشرعية على
1. ذخيرة المعاد 1: 17.
-
۳۲
المتعارف دون النادر»(1) إلاّ أنّ صاحب المدارك استند إلى الإطلاق، فلو كان الحمل دائمياً في جميع الموارد على المتعارف حتى المصداق المتعارف لما كان ثمّة مجال للنزاع إذاً!
2 ـ نقل صاحب الجواهر في مسألة الوضوء للمرأة ذات اللحية وأنّه لا يجب تخليلها ونقل عن بعض العامّة حمله دليل غسل الشعر أو التخليل على الغالب المتعارف وهو الرجل دون المرأة، ولكنّه (قدس سره) ضعّف ذلك معلّلاً بقوله: «لما عرفت من العموم اللغوي فيه»(2) وعليه فمع وجود العموم اللغوي لا مجال للانصراف.
3 ـ ذكر صاحب الجواهر في مسألة اشتراط كون المسح على الرأس باليد اليمنى كما هو المتعارف أو لا؟ أنّ مقتضى إطلاق الكتاب والسنّة وبعض الفتاوى عدم ذلك، وإن كان الظاهر من حسنة زرارة الوجوب «وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك» إلاّ أنّ هذه الرواية ولو كانت صحيحة السند لا تصلح لتقييد تلك المطلقات، خصوصاً مع احتمال إعراض الأصحاب عنها. ثم قال: «فاحتمال صرف إطلاق النصّ والفتوى إلى المسح باليد اليمنى لكونه الفرد المتعارف بعيد جدّاً»(3).
إذاً لا يمكن في مثل هذه الموارد تقييد الإطلاق مع وجود الفرد المتعارف فيها.
1. جواهر الكلام 2: 30.
2. جواهر الكلام 2: 159.
3. المصدر السابق 2: 185.
-
۳۳
4 ـ اختلف الفقهاء في حكم خروج المنيّ وأنّ المراد هو الخروج من الموضع المتعارف أو الملاك مطلق الخروج ولا فرق بين الموضع المعتاد وغيره.
استظهر صاحب الجواهر من كلام المحقق الحلّي الاطلاق. والمشهور في الحدث الأصغر هو الخروج من الموضع المعتاد، وقد استبعد صاحب الجواهر تنزيل ما نحن فيه على الحدث الأصغر. قال العلاّمة في المنتهى: «لو خرج المني من ثقبة في الاحليل غير المعتاد أو في خصيته أو في صلبه فالأقرب وجوب الغسل»(1).
وقال في التذكرة: «لو خرج المني من ثقبة في الذكر أو الاُنثيين أو الصلب وجب الغسل»(2) وثمّة تردد في وجود إطلاق شامل لما فوق الصُلب. قال المحقق الثاني: «لو خرج من غير الثلاثة المذكورة في المنتهى فاعتبار الاعتياد حقيق بأن يكون مقطوعاً به»(3) ثم قال صاحب الجواهر: «ولعل الوجه خلافه؛ وذلك لاشتراك الدليل بالنسبة للمجموع وهو الإطلاق كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما الماء من الماء».(4) ثم قوّى في النهاية القول الثاني القائل بالإطلاق مستضعفاً دليل القول الأول وهو
1. منتهى المطلب 2: 181.
2. تذكرة الفقهاء 1: 222.
3. جامع المقاصد 1: 277.
4. المصدر السابق 3: 7.
-
۳۴
انصراف المطلقات إلى المتعارف المعهود.
فهذا شاهد آخر على عدم إمكان رفع اليد عن العمومات والإطلاقات حتى مع وجود الفرد المتعارف.
5 ـ ذكر الفقهاء وجوهاً في مسألة وجوب الغسل لو كان الدخول في الدبر ولم يتحقق الإنزال، منها ما ذكره في الجواهر قال: «إطلاق قولهم إذا أدخله وأولجه أو غيّب الحشفة فقد وجب الغسل الشامل للدبر »، ثم قال: «وما يقال إنّ المطلق ينصرف إلى المتعارف يدفعه بعد تسليم كون ذلك من المتعارف الذي يكون سبباً لحمل اللّفظ عليه، أنّه كذلك ما لم يعارضه فهم الأصحاب؛ لانقلاب الظن حينئذ بخلافه».(1)
والمتحصّل من هذه العبارة: أولاً ـ أنّ كلّ فرد متعارف ومعهود لا يمكن أن يكون سبباً ـ برأيه (قدس سره) ـ لحمل اللفظ عليه. وثانياً ـ إنّ المتعارف لو كان صالحاً للتقييد فهو مشروط بعدم معارضته لفهم الأصحاب. وفي مقامنا بالرغم من دعوى وجود الفرد المتعارف إلاّ أنّه (قدس سره) يرى الإطلاق هو المحكّم في المقام.
6 ـ في بحث العصير العنبي وأفراده نجد أنّ صاحب الجواهر وإن كان قد ذهب في بداية البحث إلى تنزيل العموم على المتعارف وقال: «إن لم نقل بتنزيل عموم الصحيح على المتعارف من أفراد العصير».
1. المصدر السابق: 31.
-
۳۵
إلاّ أنّه ذهب في الأخير إلى ترجيح العمل بالعموم، قال (قدس سره): «ومع ذا فهو ليس بأولى من حمله على إرادة العموم بالنظر إلى أفراد العنب وأقسامه وإلى ما ظهر إسكاره أو اتُخذ له وعدمه وإلى ما اتُخذ من كافر أو مسلم مستحلّ لما دون الثلثين وعدمه».(1)
فيستنتج منه أن لا وجه لدعوى الانصراف مع وجود العموم اللغوي في البين.
7 ـ قال (قدس سره) في بحث حرمة التغطية من محرمات الإحرام: «ثم لا فرق بين جميع أفرادها كالثوب والطين والدواء والحنّاء وحمل المتاع أو نحوه كما صرّح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافاً بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا.
نعم، في المدارك وهو غير واضح؛ لأنّ المنهي عنه في الروايات المعتبرة تخمير الرأس ووضع القناع عليه والستر بالثوب لا مطلق الستر مع أنّ النهي لو تعلّق به لوجب حمله على المتعارف منه وهو الستر بالمعتاد وتبعه في الذخيرة».
ثم ناقشه في الجواهر وقال: «مضافاً إلى قوله (عليه السلام): «إحرام الرجل في رأسه» وغيره من الإطلاقات واستثناء عصام القربة وغير ذلك».(2)
والنتيجة هي أنّه قدّم العمل بالإطلاق وردّ الانصراف إلى المتعارف.
1. المصدر السابق 6: 25.
2. المصدر السابق 18: 384.
-
۳۶
8 ـ لا شك أنّ من الأسباب المتعارفة والبيّنة للكسوف هو حيلولة القمر بين الأرض والشمس أو حيلولة الأرض بين القمر والشمس، وهذا السبب موجب لصلاة الآيات، ولكن الخلاف فيما لو سببت بعض الكواكب للبعض الآخر كسوفاً، أو فيما لو حصل خسوف أو كسوف للشمس أو القمر بالنسبة إلى الكواكب الاخرى، بحيث يكون ذلك سبباً غير متعارف وغير معهود، فهل تجب صلاة الآيات حينئذ؟
ذكر صاحب الجواهر أولاً أنّ الملاك في تحقق وجوب صلاة الآيات هو تحقق الكسوف، ولا موضوعية لأيّ سبب من قبيل حيلولة الأرض، واستدل لذلك بإطلاق النصوص والفتاوى، قال (قدس سره): «فالمدار في الوجوب تحقق المصداق المزبور (الكسوف) من غير مدخلية لسببه من حيلولة الأرض أو بعض الكواكب وغيرها؛ لاطلاق النصوص والفتاوى وعدم مدخلية شيء من ذلك في المفهوم لغةً وعرفاً وشرعاً. نعم، قد يتوقّف في غير المنساق منه عرفاً كانكساف الشمس ببعض الكواكب الذي لم يظهر إلاّ لبعض الناس لضعف الانطماس فيه، فالاُصول حينئذ بحالها» ثم نقل رأي صاحب كشف اللثام الموافق لرأيه «فما في كشف اللثام من أنّه لا إشكال في وجوب الصلاة لهما وإن كان لحيلولة بعض الكواكب جيد إن كان الحاصل والمتعارف ممّا يتحقق به صدق الانكساف عرفاً».(1)
1. المصدر السابق 11: 401.
-
۳۷
ثم ذكر أنّ الملاك في وجوب صلاة الآيات هو إحساس الانطماس، فكلّ من شاهد الكسوف وجبت عليه الصلاة سواء رآه الغير أو لم يره، وسواء كان الانطماس ثابتاً بقول أهل الهيئة أو غيرهم. نعم، لو أخبر المنجمون بالانطماس ولم يره المكلّف لم تجب عليه الصلاة؛ لعدم الوثوق حينئذ بقولهم.
ثم نقل فتوى الشيخ في النهاية والعلاّمة في التذكرة حيث ذهبا في مثل هذه الحالات غير المتعارفة إلى عدم وجود النصّ وجريان أصالة البراءة أولاً، وإلى خفاء مثل هذا الأمر وعدم دلالة الحسّ عليه ولا طريق هنا سوى الاعتماد على من لا يورث إخبارهم الوثوق كالمنجمين. هذا من جهة، ومن جهة اُخرى نلاحظ صدق الآية المخوفة على ذلك، وقد استشكل على ذلك كاشف اللثام
قائلاً: «النصوص كلّها تشمله، والكلام في الوجوب لما يحس به لا ما يستند فيه إلى قول من لا يوثق به».(1)
وقال الشهيد في الذكرى: «منع كونه مخوفاً؛ فإنّ المراد بالخوف ما خافه العامّة غالباً وهم لا يشعرون بذلك» (39). فالكسوف مورد النزاع لا يحس به الناس؛ ولذا لا يصدق عليه الآية المخوفة. قال الشهيد: «والأقرب الوجوب فيه أيضاً؛ لكونه من الأخاويف لمن يحسّ به، والمخوف ما يخافه
1. كشف اللثام 4: 365.
2. الذكرى: 247.
-
۳۸
معظم من يحسّ به لا معظم الناس مطلقاً».(1)
وقال صاحب المدارك ـ بعد نقل كلام العلاّمة والشهيد في الذكرى ـ: «والأجود إناطة الوجوب بما يحصل منه الخوف كما تضمنته الرواية».(2)
إنّ صاحب الجواهر برغم قبوله الإطلاق أولاً بعد نقل جميع هذه الكلمات إلاّ أنّه استشكل على كاشف اللثام وقال: «لما عرفت من انصراف إطلاق أدلّة الكسوف إلى ما هو المتعارف منه كائناً ما كان سببه، أمّا غيره فلا يدخل تحت الإطلاق المزبور، بل ربما يشك في صدق الاسم على بعض أفراده فضلاً عن انصراف الاطلاق إليه».(3)
والمتحصّل هو أنّ صاحب الجواهر لا يرى انحصار سبب وجوب صلاة الآيات بسبب خاص وهو الحيلولة، بل إنّه يوسّع من دائرة ذلك إلى أسباب اُخرى في الكسوف توجب صلاة الآيات إذا كانت أسباباً متعارفة، بل إنّ كاشف اللثام قد توسّع إلى الأسباب غير المتعارفة استناداً إلى الإطلاقات، فتجب صلاة الآيات مشترطاً استناد الرؤية إلى المكلّف نفسه.
ومن الملفت هنا هو أنّ الملاك في الكسوف في الروايات والنصوص هو الرؤية أيضاً، كما هو الأمر في تحديد بداية
1. كشف اللثام 4: 365.
2. مدارك الأحكام 4: 128.
3. جواهر الكلام 11: 402.
-
۳۹
الشهر القمري على ما بيّناه في تحرير محل النزاع:
روي عن الصادقين (عليهما السلام): «إنّ الله إذا أراد تخويف عباده وتجديد الزجر لخلقه كسف الشمس وخسف القمر، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله بالصلاة».(1)
وكذا في خبر عمار عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام): «إنّ الزلازل والكسوفين والرياح الهائلة من علامات الساعة، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فتذكروا قيام الساعة وافزعوا إلى مساجدكم».(2)
فالمستخلص من المورد الثامن هو أنّه لو كان الانصراف إلى الفرد المتعارف أمراً متسالماً عليه بين الفقهاء لما كان هذا الاختلاف بينهم في ذلك، ولكان الملاك في الكسوف ووجوب صلاة الآيات هو الحيلولة لا غير، والحال إنّ صاحب الجواهر وغيره من الأكابر لم يوافقوا على انصراف الاطلاق إلى الفرد المتعارف في المورد المذكور. طبعاً، نعم ثمّة تردّد من جهة اُخرى في صدق عنوان الكسوف.
9 ـ ما تمسّك به بعض الأعاظم ـ كالمحقق الخوئي ـ من إطلاق قوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
1. وسائل الشيعة 7: 484، ب1 من صلاة الكسوف والآيات، ح5.
2. وسائل الشيعة 7: 487، ب2 من صلاة الكسوف والآيات، ح4.
-
۴۰
بِالْمَعْرُوفِ)(1) لإثبات وجوب النفقة على الصغيرة مع وضوح انصرافه إلى الكبيرة، بمعنى أنّه لا اعتبار عندهم لهذا الانصراف.
10 ـ التمسّك بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشْراً)(2) لإثبات العدّة على الزوجة الصغيرة إذا مات عنها زوجها، مع أنّ الإطلاق في الأزواج منصرف إلى الكبيرة.
11 ـ تمسّك الفقهاء بشكل جلي بإطلاق قوله: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)(3) في موارد البيع كافّة حتى في المصاديق التي لم تكن في السابق كإنشاء البيع بالتلفون والإنترنيت، فلم يدّع فقيه إلى الآن أنّ البيع ينصرف إلى خصوص البيع المتعارف الموجود بين غالب الناس، بل قد تمسّك البعض بإطلاقها لإثبات صدق البيع فيما يشك في صدقه.(4)
12 ـ من الواضح إنّه لم يتمسّك أحد بحمل قوله: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الاَْرْضِ)(5) على الفرد المتعارف للضرب الذي هو بمعنى المشي المعروف أو المشي مع الحيوانات كالخيل ـ وإن كان
1. البقرة: 233.
2. البقرة: 234.
3. البقرة: 275.
4. منهاج الصالحين: 287.
5. النساء: 101.