-
۱۱
الهلال، وليس فيها «حين يهلّه الناس».
وعلى هذا فإنّ للهلال معنى لغوياً بيّناً، وإن كان ثمّة مقولة معروفة عن ابن الأعرابي كما في لسان العرب أنّ الهلال إنّما سُمّي هلالاً لأنّ الناس يصيحون عند رؤيته، إلاّ أنّه لا يمكن اعتبار مثل هذا في الهلال مورد البحث، أي الموضوع للحكم الشرعي، بعبارة اخرى: لا يمكن عدّ ذلك ـ صيحة الناس ـ ملاكاً في الهلال، وإن كان هو الغالب فيه.
نعم، ورد في صحاح اللغة كما يلي: «ويقال أيضاً استهل هو بمعنى تبيّن ولا يقال أهلّ»(1) حيث فسّر الاستهلال بمعنى التبين والظهور، والسبب في ذلك هو أنه لو استهلّ شخص ولم ير الهلال فلا يصدق على ذلك الاستهلال، والنقطة الجديرة بالإشارة هي أنّ الاستهلال في الروايات ليس ملاكاً للحكم وأنّ الملاك هو نفس الهلال ورؤيتة.
النقطة الاُخرى الجديرة بالاهتمام هي أنّه لو فرضنا القبول بمدخلية الظهور ورؤية الناس وصيحتهم لذلك في تحقق الهلال، إلاّ أنّه قد ثبت في محلّه أنّه لا مدخلية تامة لوجه التسمية في صدق العنوان، بمعنى إمكانية أن يصدق العنوان في بعض الحالات من دون صدق وجه التسمية.
والنتيجة هي أنّ الهلال يتحقق بمجرّد ولادته، وقوله
1. صحاح اللغة 5: 1852.
-
۱۲
تعالى: (يَسْألونَكَ عَنِ الاَْهِلَّةِ...)(1) شامل أيضاً لمثل هذا الهلال قطعاً.
وللفلكيين أن يسلكوا لتعيين ولادة الهلال طريق الحساب الدقيق كما يسلكوه في المقارنة، إلاّ أنّ المشكلة عدم حجية مثل هذه الحسابات بنفسها ومع غضّ النظر عن إمكان إفادتها الاطمئنان وعدمه، هذا أولاً، وثانياً إنّ الأدلّة نصّت على اعتبار أنّ الرؤية هي الملاك، ولذا لايمكن الاعتماد على الحسابات الفلكية، فالملاك إذاً بحسب ظاهر الأدلّة هو رؤية الهلال.
وقد وقع البحث في أنّه لو كان الهلال ـ وهو ما كان في زمن الولادة ـ قابلاً للرؤية بالتلّسكوب بنحو لا تستوجب الرؤية به تغييراً في الواقع ولا تعكس إلاّ الهلال الواقعي فهل مثل هذه الرؤية حجّة أو لا؟
والوارد في كلمات بعض الأعاظم كالمرحوم المحقق الخوئي (قدس سره) فيما يرتبط بالهلال محلّ البحث هو أنّ «الهلال عبارة عن خروجه عن تحت الشعاع بمقدار يكون قابلاً للرؤية ولو في الجملة»(2).
1. البقرة: 189.
2. كتاب الصوم (الخوئي) 2: 118.
-
۱۳
فهو يشترط في تعريف الهلال مضافاً إلى خروجه من تحت الشعاع ـ أن ينفصل قليلاً عن الشمس وأن يخرج من تحت شعاعها حتى يكون قابلاً للرؤية ولو في بعض المناطق.
ولكنّا لا نرى وجهاً لإضافة مثل هذا القيد في تعريف الهلال، بل يلزم على ذلك ألاّ تكون هناك ضابطة معيّنة، ولو أردنا تعريف الهلال كذلك فإنّه يمكن اعتبار النزاع حينئذ لفظياً. توضيح ذلك: إنّا لو التزمنا بهذا التعريف أي خروج الهلال من تحت شعاع الشمس بحيث لا يكون قابلاً للرؤية بالعين الطبيعية فعلاً لشدة ضعف نوره ولكنه قابل للرؤية من الناحية العلمية، فيرى بالتلسكوب أو الكاميرات فلابدّ أن يفتي الجميع في هذه الصورة بكفاية ذلك وصحته.
وإن كان ظاهر الفتاوى عدم كفاية ذلك في مثل الفرض ما لم تتحقق الرؤية بالعين المجرّدة، إلاّ أنّ الواقع هو أنّه مع حصول الاطمئنان بخروج الهلال من تحت الشعاع لعدّة ساعات ـ بمعنى مضي ساعات على الهلال ـ فإنّ تلك الليلة هي أول ليلة للشهر القمري بما لا يقبل التأمّل والتردّد.
ولو لم يوافق على مثل هذه الدعوى وقيل بأنّ هذه الصورة المفروضة داخلة في محل النزاع أيضاً، فلابدّ حينئذ من البحث بصورة أوسع بما يشمل صورتين:
الصورة الأولى: أن يولد الهلال ولكن بنحو لا تمكن رؤيته ـ حسب الحسابات الفلكية ـ بالعين المجرّدة، وذلك حين خروجه
-
۱۴
في اللحظات الاُولى من تحت الشعاع.
الصورة الثانية: أن يخرج من تحت شعاع الشمس بمقدار تكون إمكانية الرؤية بالعين المجرّدة من حيث الحسابات الفلكية ضعيفة جدّاً، ولكن مع ذلك لا تستحيل الرؤية وإن كانت بالفعل غير متحقّقة. ففي هاتين الصورتين لم يفكك بينهما من تعرّض لبحث المسألة مع أنّ الصورة الثانية كما أسلفنا يمكن إخراجها عن محل النزاع، هل يمكن التعويل على الرؤية بالوسائل والتلسكوب أو لا؟
نُسب إلى المشهور من الفقهاء عدم كفاية الرؤية بالعين المسلّحة، والحال أنّ المسألة هي من المسائل المستحدثة التي لا يرجع تأريخها إلى فترة قديمة، بل يمكن القول بشكل أدّق ـ كما ورد ذلك في بعض الكلمات ـ أنّ فترة الاستخدام المنضبط والمقنن لهذه الأجهزة والوسائل لرؤية الهلال لا تتجاوز بضعة عقود. وعليه فلا يمكن دعوى الشهرة المعتبرة بين الفقهاء والتي هي عبارة عن الشهرة بين المتقدّمين، نعم الحكم مشهور بين المتأخرين، ولكن الشهرة بينهم ليست حجّة كما هو معلوم.
أدلة الموافقين بالرؤية بالعين المسلّحة
وقد تمسك القائلون بكفاية الرؤية بالعين المسلّحة بأصالة الإطلاق في المقام، وأنّه لم يرد أيُّ دليل أو قرينة تقيّد الرؤية بغير المسلّحة، وإن كانت أصل الرؤية عندهم معتبرة،
-
۱۵
والحسابات الفلكية والأمور الظنّية غير معتبرة عندهم، ولكنهم يرون أنّ الرؤية لمّا كانت مجزية بالوسائل كالنظّارات ـ مثلاً ـ فإنّها مجزية أيضاً إذا كانت بوسائل أقوى وأفضل إذا لم تحدث تغييراً في الواقع المرئي، فالمهم من الناحية الصناعية هو صدق استناد الرؤية إلى الرائي، ومن يرى بالتلسكوب تُسند إليه الرؤية قطعاً، وهذا الاستناد حقيقي. وبعبارة ثانية: إنّ صدق الرؤية محرز ومسلّم في الرؤية بالتلسكوب، والشاهد على ذلك هو إمكانية الشهادة بالقتل إذا شوهد بالتلسكوب وعلى القاضي ترتيب الأثر عليه، مع أنه يشترط في باب الشهادات أن تكون مستندة إلى الرؤية أيضاً.
وشاهد آخر على هذا القول هو أنّه يشترط في حليّة أكل السمك أن يكون ذا فلس، فقد اعتبرت النصوص والفتاوى الملاك في حلّية أكل السمك هو وجود الفلس، فلو تعذّرت رؤية الفلس في بعض أنواع السمك ـ مثلاً ـ بالعين المجرّدة وأمكنت بمثل الناظور أو لم يتمكّن عامة الناس من تشخيصه الفلس وتمكّن اُهل الخبرة من ذلك فالظاهر كفاية هذا المقدار في حليّة أكله ولا يمكن القول باشتراط كون الرؤية بالعين المجرّدة فقط.
وبعبارة ثانية: إنّ جواز الأكل منوط بوجود الفلس واقعاً، وفيما نحن فيه وإن ذكرت الرؤية في الروايات إلاّ أنّ المستفاد من الأدلّة هو الوجود الواقعي للهلال.
-
۱۶
وبشكل عام فإنّه ـ مضافاً إلى هذين الشاهدين ـ يمكن إجمال استدلال هذا الفريق بثلاثة أدلّة ومؤيّد واحد:
1 ـ إجراء أصالة الإطلاق بالنسبة لسبب الرؤية وعدم وجود قرينة على الانصراف.
2 ـ استناد الرؤية حقيقة إلى من يستخدم هذه الوسائل في الرؤية.
3 ـ شمول لفظ الأهلّة في قوله (يَسْألونَكَ عَنِ الاَْهِلَّةِ...)(1)، حيث يشمل بإطلاقه الهلال الذي لا يراه الناس بالعين غير المسلّحة ولكنّهم يرونه بالعين المسلّحة.
ومن المؤيدات لهذا الرأي بالإضافة إلى هذه الأدلّة الثلاثة هو أنّه لو لم تمكن الرؤية العادية في الليلة الاُولى وتمّت رؤيته بالتلسكوب فإذا لم نعتبر نهار تلك الليلة اليوم الأول من الشهر واعتبرنا اليوم الذي بعده أول الشهر، فإذا كان ذلك الشهر ثمانية وعشرين يوماً فإنّه يجب قضاء يوم واحد طبقاً لبعض الروايات وفتوى جميع الفقهاء، وهذا يكشف عن أنّ ذلك اليوم هو الأول للشهر ولو لم تتمّ فيه الرؤية بالعين الطبيعية.
وهذا خير شاهد على أنّه لا موضوعية للرؤية بالعين العادية.
1. البقرة: 189.
-
۱۷
إن قلت: إنّه في مثل الفرض المذكور نستكشف أنّ الرؤية بالعين المجرّدة في الليلة الاُولى كانت ممكنة إلاّ أنّها تعذّرت لبعض الموانع.
وبعبارة ثانية: إنّه قد يدّعى وجود ملازمة بين هذين الأمرين، أي بين رؤية الهلال في الليلة الثلاثين بالعين المجرّدة وبين إمكانية رؤيته كذلك في الليلة الاُولى.
قلت: إنّه لم يقم أيُّ دليل لا من الناحية الفلكيّة ولا غيرها من الطرق الاُخرى على وجود هكذا ملازمة، بل إنّا لو لاحظنا حالات الرؤية لوجدنا في بعض الموارد منها أنّ الفلكيين يدّعون فيها عدم قابلية الرؤية في الليلة الاُولى بالعين المجرّدة، ثم يأتون ويدّعون بعد مضيّ تسعة وعشرين يوماً إمكانية رؤية الهلال الجديد بالعين المجرّدة، بل يمكن القول مع غضّ النظر عن هذا المطلب إنّه لا دليل أساساً في علم الفلك على وجود مثل هذا الأمر.
أدلة المخالفين بالرؤية بالعين المسلّحة
وأمّا من استدلّ على عدم كفاية الرؤية بالعين المسلّحة فمجموع ما استدلّ به عبارة عن دعويين:
الدعوى الاُولى: دعوى انصراف الرؤية إلى الرؤية بالعين الطبيعية، قال بعض الأعلام:
«لا تكفي الرؤية بعين ذات البصر الحادّ كما لا تكفي الرؤية
-
۱۸
بالآلات الرصدية، وما هذا إلاّ للانصراف».(1)
الدعوى الثانية: دعوى أخذ الرؤية بنحو الطريقية لا الموضوعية، على توضيح سيأتي.
الدعوى الاُولى: الانصراف
قال بعض الأعاظم: عندما تطلق الرؤية فإنّ المنصرف هو الرؤية المتعارفة وهي الرؤية بالعين غير المسلّحة؛ لأنّ الفقهاء يصرفون الإطلاقات في جميع أبواب الفقه إلى الأفراد المتعارفة.(2)
ولكن ثمّة أمور جديرة بالملاحظة في هذا النص، وهي كما يلي:
أولاً: لابدّ من ملاحظة ما هو المنشأ في الانصراف؟ قد ثبت في علم الأصول صحة الانصراف لو كان منشأه غلبة الاستعمال لا ما إذا كان من غلبة الوجود، وكما تستعمل الرؤية في الرؤية بالعين غير المسلّحة فإنّها تستعمل ـ حقيقة ـ في الرؤية بالنظّارات أو المكبّرات أو المنظار.
ثانياً: إنّ ما ذكر دليلاً على هذا المدّعى حقيق بالتأمل؛ لأنّ ما ذكر ـ من أنّ الفقهاء يصرفون الإطلاقات في جميع الأبواب الفقهية إلى المصاديق المتعارفة ـ على فرض صحته لكن
1. الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء: 144.
2. انظر: إثارات هامّة حول رؤية الهلال.
-
۱۹
هل يمكن اعتبار عمل الفقهاء دليلاً وحجة في المقام؟ فإذا كان الفقهاء إلى ما قبل العلاّمة الحلّي يفتون بلزوم نزح المقدّرات في البئر فهل يكون هذا حجّة على سائر الفقهاء؟! فإنّه من الواضح لزوم البحث في أدلة الأقوال في مثل هذه المسألة، وكذا الأمر فيما نحن فيه.
من الواضح أنّه كما يجب في أمثال هذا المورد البحث والفحص عن الدليل، فكذا يجب في هذا المورد الرجوع إلى أدلّة المسألة لكي يتمّ بحثها.
ثالثاً: عدم تمامية مثل هذه النسبة إلى الفقهاء بمجردّ إحصاء موارد قليلة، حيث توجد ثمّة موارد على خلاف ذلك ـ سنشير إليها ـ تؤكد عدم صحة مثل هذه الدعوى على إطلاقها ونسبتها إلى جميع الفقهاء.
ولكن نشير قبل التعرّض للموارد ـ سواء قبل الفقهاء بالانصراف فيها أو لم يقبلوا ـ إلى بعض النقاط التي ينبغي تدقيقها وتمحيصها من جهة صناعية:
النقطة الاُولى: من الواضح إنّ أصالة الإطلاق من الاُصول اللفظية العقلائية، والأصل الأوّلي في الألفاظ هو الإطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة ما لم يتوفّر دليل أو تقم قرينة على التقييد. وبعبارة اُخرى: إنّ رفع اليد عن الإطلاق ودعوى الانصراف بحاجة إلى قرينة دائماً، وبدونها لا يمكن دعوى الانصراف، بل لو أردنا حمل المطلقات في جميع الموارد
-
۲۰
على الفرد المتعارف لفقد الاجتهاد حيويته وفاعليته، فالاجتهاد حيٌ وفاعل ببركة هذه الإطلاقات والعمومات.
ولا توجد أيّة قرينة صارفة في الروايات الواردة في رؤية الهلال أو غيرها من الأدلّة، والرؤية مطلقة من جهة السبب «إذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فافطر» أو «صم للرؤية وافطر للرؤية».
لقد وردت «الرؤية» في هذه الروايات إمّا بصيغة الخطاب أو بغير صيغة الخطاب، والخطاب إمّا بصورة المفرد أو بصورة الجمع، إلاّ أنّه لم يرد في جميع هذه الروايات الثمانية والعشرين (في الباب الثالث من أبواب شهر رمضان من المجلد العاشر من الوسائل) أية قرينة دالّة على الانصراف، وبذلك نثبت الاكتفاء بالرؤية بكلّ طريقة، بمعنى أنّ الملاك هو صدق الرؤية بأيّ طريق اتّفق، ومن جهة اُخرى فإنّ من الواضح إنّه وفي حالات كثيرة بل في جميع موارد الإطلاق عندما يتمّ الانصراف إلى الأفراد المتعارفة فإنّ مقتضى القاعدة والصناعة توقف دعوى الانصراف على وجود القرينة، وبدونها لا يمكن القبول بدعوى الانصراف البتة.
تحليل الروايات
المستفاد من دراسة الروايات الواردة أنّ الرؤية طريق وكاشف عن ثبوت الهلال، لكنها طريق إلى اليقين والاطمئنان